ردود فعل متباينة تلك التي خلفها توافد العديد من الشباب على المعرض الدولي للكتاب بالرباط، ليحظوا بتوقيع إحدى روايات الكاتب والروائي السعودي أسامة المسلم، وقد تناقلت العديد من المواقع الاجتماعية، والجرائد الالكترونية، تتداول خبر التدافع والاغماءات أثناء استقبال الروائي السعودي بالمعرض الدولي للكتاب بمدينة الرباط بالمملكة المغربية، فيما نعت البعض الآخر الوضع ب “غزوة” الكاتب السعودي أسامة المسلم، آخرون عبروا عن الوضع ب ” أسامة المسلم كاتب يثير رعب الناشرين في معرض الرباط”، بينما أثار الوضع دهشة وامتعاض بعض المثقفين المغاربة، ولفهم لماذا حظي الروائي والكاتب أسامة المسلم بكل هذه الاحتفالية من طرف جمهور عريض من الشباب المغربي؟ رجعنا إلى بعض مؤلفات الكاتب “خوف” الصادرة عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع، عام 2018م، عبارة عن سيرة ذاتية للكاتب.
من خلال هذا العمل أجدني أمام تقاطع كبير بين الشباب والكاتب على مستوى المعاناة مع الغربة، فأسامة المسلم، الذي عاش غربة جغرافية وثقافية ولغوية، حيث سافر مع أسرته قبل اكمال عام الأول، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الطفل الذي أدرك المحيط من خلال لغته الأولى، وهي اللغة الإنجليزية، عاش طفولته كأي طفل غربي، بل وظل طوال سنوات الغربة يمارس حياته اليومية في سياق الثقافة الامريكية.
تحول الإحساس بالمتعة ولذة الوجبات السريعة التي تذوقها الطفل أسامة المسلم بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى غربة حقيقية نفسية وثقافية ولغوية حينما عادت أسرته إلى المملكة العربية السعودية، كثيرون هم أولئك الذين كانوا يضحكون ويسخرون منه حينما يتكلم بطلاقة باللغة الإنجليزية وهي لغته الأولى، ولعلني أجد التقاطع بين الكاتب والشباب المغربي كامن في الشعور بالغربة.
إن الاستهلال القيم والثقافة الرقمية والانخراط بشكل كلي في وسائل التواصل الاجتماعي، أحدث فجوة بين الأجيال، من حيث القيم والمعايير والرؤى، تناقضات بين الأجيال غالبا ما يعبر عنها بكون هذا الجيل “لا يقرأ، لا يفهم معنى الحياة، لا يريد أن يعمل، يريدون الحياة سهلة، ضعاف من حيث التحصيل الدراسي” وما إلى ذلك من الأوصاف والنعوت، جعلت الشباب واليافعين يتذوقون مرارة الغربة في مجتمعهم.
ولأنَّ الكتابة هي مساحة مركبة ومائلة، فإنَّ الشباب المغربي انزلق في اتجاه الموضوعات التي تعبِّر عن غربته ومواقفه من الحياة، خاصة وأنَّ الكاتب وفر مساحة كبيرة في مؤلفاته للخيال، أو الأدب الخيالي، والذي في الواقع مفعوم برؤى ومشاهد شبيهة بتلك التي تقدمها النصوص المقدسة، من غير أن تطالب المتلقي بواجبات دينية، تتجلى هذه المشاهد والرؤى في وجود أبطال وغالبا ما تتم محاكاتهم، وجود مهام ونمو تجربة ومخاطر يجب التغلب عليها، ومكافآت. كما أنَّ لغة الخيال شبيهة بلغة النصوص المقدسة، فهي لغة مجازية، تعتمد الأمثال مثل لغة الدين.
لقد غيرت الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي معايير وأذواق الشباب، مثلما ساهمت في صناعة قيم اجتماعية رقمية تتميز بكونها أكثر ديناميكية من تلك التي كانت تقدمها الأجهزة القديمة مثل الراديو والتلفزيون، وما يمكن استنتاجه من خلال هذا الاقبال الكبير على قراءة كتب أسامة المسلم، هو أن الفضاءات الرقمية قامت بسحب الشباب من الإطارات التقليدية التي كانت تقدم المعارف وتتحكم فيها مثل الأسرة والكُتَّاب والمدرسة.
ما حدث يبين على أن الثقافة الرقمية، هي ثقافة المشاركة والتنوع بالنسبة للشباب، لكن في دوائر وإطارات ثقافية واجتماعية جديدة، عابرة للحدود قاسمها المشترك هو الاغتراب والغربة والبحث عن الاستمتاع بالمغامرات وانجازات الأبطال، وهو ما ينم على الهروب من واقع لم يعد يلبي احتياجات الشباب العاطفية والنفسية، هروب من الرقابة الصلبة التي يمارسها المجتمع والأسرة، هروب من أجل الارتواء من الفيض العاطفي الذي يقدمه الكاتب.
إنَّ من أهم أسباب هذا العطش أو الجوع العاطفي والروحي الذي يعيشه المجتمع المغربي اليوم وخاصة الشباب، هو التفكك الاجتماعي، وتحول الأسرة إلى مؤسسة استهلاكية، صار معه كل أفرادها يبحثون عن تنويع الدخل لتسديد نفقات متطلبات الحياة، مما أنتج بيئة جافة، جعل الشباب يهربون إلى الفضاءات الرقمية ويبحثون عن الغذاء العاطفي.
وجب الإشارة إلى أنَّ الأسرة التقليدية، كانت توفر هذا الغذاء العاطفي عن طريق كبار السن، حيث كانوا يضطلعون بوظيفة حكي القصص والتي في الغالب يكون أبطالها من الجن ومن القصص الدينية وتعتمد عنصر التشويق والمغامرات، لكن التفكك الاجتماعي وضمور الأسرة الكبيرة الحجم على مستوى الإقامة، وانخراط الأبوين في العمل، جعل الشباب المغربي يتفاعل عبر الحدود الثقافية والاجتماعية للمجتمع.
وعليه، فإنه من الواجب أن نفهم ما حدث في المعرض الدولي للكتاب، باعتباره تحول في مواقف ورؤى الشباب المغربي، مواقف من رؤى لا تعكس رغباتهم وتطلعاتهم، مع تشبتهم بالوساطة الرقمية باعتبارها الوحدة الأساسية للأجيال الصاعدة. إن ما يفتقده الشباب اليوم في الأسرة وفي المدرسة هو ذلك الدرس الذي يتجاوز الأجزاء المرتبط بالعمل والمستقبل إلى بناء فكر إنساني يكتشف دواخل هذا الشباب.
*أستاذ علم الاجتماع – جامعة محمد الخامس –الرباط
تعليقات( 0 )