بقلم: عمر لبشيريت
في ظرف أسبوع واحد، تلقى الرأي العام رسالتين سلبيتين حول ملف محاربة الرشوة والفساد، حملتا إشارات مثيرة للقلق بخصوص مدى جدية التعاطي الرسمي مع هذا الورش الحساس.
رسالة بنعليلو.. السرية والكتمان
الرسالة الأولى جاءت من رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد بنعليلو، خلال الاجتماع الأول لمجلس الهيئة منذ تعيينه على رأسها، خلفا لبشير الراشدي.
بنعليلو، في أول ظهور رسمي له، قرر إغلاق أبواب الهيئة أمام وسائل الإعلام، مكتفيا بالإعلام الرسمي لتغطية الحدث.
خطوة تعني بوضوح أن الرئيس الجديد يفضل العمل في كواليس مغلقة، بعيدا عن أعين الرأي العام. لقد اختار التكتم، وكأن محاربة الرشوة ممكنة من خلف مكاتب باردة وبالسرية التامة، بينما يفرض هذا الورش الحساس أعلى درجات الشفافية والانفتاح.
وسائل الإعلام ليست خصما، بل شريكا ضروريا في معركة تطهير الإدارة من الرشوة والفساد. التعتيم الإعلامي لا يخدم هذه المهمة، بل يغذي الشك ويضعف الثقة.
محاربة الرشوة تقتضي الانفتاح وإشراك الرأي العام، وهذا لا يتأتى إلا عبر وسائل الإعلام. هي البوابة والوسيط للإخبار، والمتابعة، والمراقبة.
لا نحارب الرشوة خلف دهاليز البيروقراطية الإدارية، ولا بالسرية وحجب المعلومات. والأسوأ من ذلك، أن أشغال الاجتماع الأول للهيئة لم تسفر سوى عن بيان إنشائي. ربما، لم يكن أمام السيد بنعليلو ما يقدمه أمام وسائل الإعلام. ربما…
كنا ننتظر التعرف على استراتيجية عمل الهيئة، في ثوبها الجديد، على خطة عمل واضحة، على بنك أهداف محددة، على برنامج عمل، على أجندة زمنية.
فإذا بنا، أمام عرض إنشائي رسمي تُلي أمام كاميرات رسمية، لا شيء غير الإنشاء، ثم انسحب، لا مجال لأسئلة واستفسارات الصحافة.
رسالة وهبي… أنا وحدي نضوي لبلاد
الرسالة الثانية جاءت من وزير العدل عبد اللطيف وهبي، الذي أعلن، خلال اجتماع لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، أنه يرفض رفضا قاطعا أي تعديل على المادة 3 من مشروع قانون المسطرة الجنائية.
وزير العدل حلف بأغلظ الإيمان أنه لن يقبل أي تعديل. طريقة جديدة وعجيبة في التشريع ومعاملة المشرّعين. الوزير “كيحلف” ولا يحاجج أو يناقش أو يتدارس.
المادة المذكورة تمنع جمعيات المجتمع المدني من التبليغ عن قضايا الفساد، وتمنح هذا الحق حصرا للنيابة العامة، أو لجهات رسمية بناء على إذن مسبق.
بموجب هذا التعديل، لا يمكن فتح تحقيق أو إقامة دعوى في قضايا الفساد المال العام إلا بطلب من الوكيل العام لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، وبناء على إحالة من مؤسسات رسمية. أما الجمعيات ذات المنفعة العامة، فسيصبح لزاما عليها الحصول على إذن مسبق من وزارة العدل للتقاضي في هذا الشأن.
بمعنى أن التبليغ عن جرائم الفساد أصبح اختصاصا رسميا، ويتطلب إذنا رسميا. احتكار مطلق. فيما على المجتمع وهيئاته الاكتفاء بدور المتفرج.
هذا التوجه لا يطرح فقط إشكالا قانونيا، بل يمس جوهر المشاركة المجتمعية في حماية المال العام. فبدل أن تُمنح هذه الهيئات أدوات الدعم والمرافعة والتبليغ، يتم تجريدها من دورها وتحويلها إلى شاهد عاجز.
واقع الحال يكشف خللا أعمق. فـ”اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد”، التي أُحدثت سنة 2017، لم يُدعَ لانعقادها أي رئيس حكومة إلى اليوم.
أما التقرير السنوي الأخير للهيئة الوطنية للنزاهة، فكشف أن 79% من المغاربة يعتبرون أن جهود الحكومة في محاربة الفساد “سيئة أو سيئة جدا”، رقم صادم من هيئة رسمية دستورية لم يُلتفت إليه.
هذه هي نظرة المغاربة اتجاه الدور الرسمي في محاربة الرشوة، والتشخيص قامت به هيئة رسمية دستورية.
أكثر من ذلك، عندما أعلن الرئيس السابق للهيئة، بشير الراشدي، أن الفساد يكلف المغرب 50 مليار درهم سنويا، جاء الرد الحكومي منزعجًا، ساخطا، خاصة من طرف وزير العدل، بدل أن يكون محفزا على التحرك.
إن كانت الحكومة تنزعج من تقارير هيئة دستورية مستقلة، فليس مستغربا، منها، هذه الحساسية اتجاه أدوار المجتمع المدني في محاربة الفساد والرشوة، بل من الطبيعي أن لا تتقبل شراكة حقيقية مع المجتمع المدني.
الخلاصة… نشتغل في العتمة
ليس سرا أن الثقة مفقودة في التعاطي الرسمي مع قضايا الفساد. والمطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو استعادة هذه الثقة.
وطمأنة الناس في مؤسساتهم لا تتم إلا بإشراكهم وتشجيعهم من خلال تقوية دور مؤسسات الوساطة: هيئات المجتمع المدني. كما كان مطلوبا جعل النسيج المدني شريكا في مواجهة الفساد، وتمكينه من آليات الرصد والمرافعة والتكوين، وأساسا دعم حقه في التبليغ والتقاضي.
هذا المنع يجعل من هيئات المجتمع المدني “شيطانا أخرس”، ترصد الفساد وتراقب الشطط والانحراف، لكنها مكبلة اليدين، لا تستطيع تقديم المساعدة لشخص في خطر.
لكن ما حدث خلال هذا الأسبوع يوحي بالعكس تماما. الرسائل واضحة: لا نريد إشراك أحد، لا نريد إطلاع أحد، نريد احتكار كل شيء والعمل في العتمة.
Circulez, il n’y a rien à voir