بقلم: ابتسام مشكور
وأنا أشاهد اليوم لحظات الفراق الصعبة بين ناصر الزفزافي ووالدته على أبواب المنزل الذي تربى فيه، ومنه حمل والده إلى القبر، ثم رجع إلى زنزانته في مشهد درامي يتفوق فيه الواقع على الخيال..
قفزت إلى ذاكرتي حكاية قديمة من أرشيف الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش وأمه. تقول القصة إنه في سنة 1965، زارت الأم ابنها في سجن الرملة كما تفعل كل الأمهات، وكانت تحمل له خبز يدها والقهوة التي لم يكن يعشق شيئًا في الدنيا أكثر منها… لكن الجندي الإسرائيلي كان له رأي آخر، فمنع الأم المكلومة في ابنها من زيارته، وسكب القهوة على الأرض، ورمى بالخبز الذي عجنته بيدها ذلك الصباح قبل أن تشد الرحال إلى السجن…
لم تيأس ولم تستسلم، وأصرت على زيارة فلذة كبدها حتى سُمح لها بالدخول إلى قاعة زيارة السجناء. هناك، بين جدران السجن، احتضنته وبكت، وحكت له عن الخبز الممنوع والقهوة المسكوبة على الأرض، فعاد يشعر أنه طفل صغير بين يديها.
ومن تلك اللحظة، لما رجع إلى الزنزانة، كتب قصيدته الخالدة: “أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي” على ظهر علبة سجائر… ولم يبخل عليها الفنان اللبناني مارسيل خليفة بأجمل لحن وأعذب صوت…
لم تكن الحكاية عن الخبز والقهوة المسكوبة فقط، بل عن مشاعر الأمومة التي تظل أكبر من السجن وأقوى من السجان.
وهكذا بدا لي وداع الخالة زليخة لابنها ناصر عند باب الدار، وحراس السجن ينتظرونه للعودة به إلى زنزانته بعد جنازة والده: لحظة تدمع لها القلوب قبل أن تدمع لها العيون.
أي امرأة هذه التي تقف بكل ذاك الشموخ والترفع عن الجراح؟
من أين لها بكل ذاك الصبر، وهي تودع في يوم واحد زوجًا إلى القبر، وابنًا إلى السجن، قبر الحياة؟
إن الموت الذي زار بيت آل الزفزافي دون استئذان لم يكتف بخطف عمود الدار، بل كان امتحانا عسيرا لصبر الأم المريضة، التي قضت ما يقارب عشر سنوات في التنقل بين السجون التي طاف بها ابنها ناصر.
ومع كل هذا الألم والمرض والوجع، أخفت دموعها عنا جميعا، وصمدت مثل نخلة وسط الإعصار.
حين انحنى ناصر يقبل قدميها وهي تناديه: “يا كبدي…”، بدا المشهد قاسيا وجارحا لنا على الأقل، ولا نعرف ماذا كان شعور من يقفون وراء استمرار هذا الشقاء.
عندما انحنى ناصر يقبل رجلي والدته شكرا وعرفانا وطلبا للرضا، كان أيضا يتزود بقوة استثنائية يحملها معه إلى زنزانته، علها تثلج صدره وتطفئ بعض نار شوقه كلما داهمه الحنين إلى رائحة أمه، والخبز، والقهوة، والطاجين، والحرية التي حرم منها لقرابة عقد.
الخالة زليخة ليست استثناء وإن كانت حالة فريدة. قبلها قضت أمهات المناضلين والمناضلات زمن سنوات الرصاص نصف أعمارهن أمام أبواب السجون والمحاكم.
وقبل ذلك، أمهات المقاومين اللواتي سلمن أبناءهن للرصاص الفرنسي والإسباني طلبا للحرية، وعدن إلى بيوت فارغة إلا من صدى القهر والفقد والترمل.
نساء لا تكتب أسماؤهن في الكتب إلا نادرا، لكنهن أنجبن رجالا وصنعن التاريخ بصبرهن وصمتهن وكفاحهن. هن “الأمهات المجهولات” اللواتي لا يقللن شأنا عن “الجندي المجهول”.
علمتنا الأمومة نحن معشر النساء، أن الصبر ليس فضيلة مثالية بقدر ما هو قدر قاس، وأن تحمل اختبارات الحياة القاسية من أجل عيون أطفالنا ليس خيارا، بل واجبا.
واليوم، يا خالة زليخة، أنت تعلمينا أكثر من ذلك: تعلمينا كيف نصمد في وجه المحن، ونمسح دموعنا خفية، ونطوع الوجع لنحوله إلى وقود يمد الأبناء بالقوة..
تعلمينا كيف نقاوم القيد والقهر دون أن ننكسر، وبوجه مبتسم نتطلع إلى مستقبل أفضل.
لقد منحتنا درسا في أن الحنان والعطف لا يكون للأبناء وحدهم، بل أيضا لوطن لا يخجل من دموع أمهاته، ودولة لا تبالي بجراح مواطنيها في المغرب العميق…
أنت، يا خالة، الشاهد الماثل أمامنا على أن الأمهات لا يربين الأطفال فقط، بل يربين الأوطان، ويصنعن المجد بصمت، ويزرعن الأمل في تربة الألم، لعلها تزرع كرامة ومحبة ذات يوم..!
ناصر، إذا داهمك الحنين إلى خبز أمك، وقهوة أمك، وحضن أمك، ونظرة أمك، ولمسة أمك، فغنِّ مع محمود درويش وأنت هناك خلف القضبان:
أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوةِ أمي
ولمسةِ أمي..
وتكبُرُ فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدر يومِ
وأعشَقُ عُمري لأني
إذا متُّ، أخجل من دمع أمي
خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهُدبكْ
وغطِّي عظامي بعشبْ
تعمَّد من طهر كعبكْ
وشُدّي وثاقي.. بخصلة شعر
بخيط يلوِّح في ذيل ثوبكْ
ضعيني، إذا ما رجعتُ،
وقوداً بتنور ناركْ
وحبل غسيلٍ على سطح داركْ
لأني فقدتُ الوقوف
بدون صلاة نهاركْ
هرمتُ، فردّي نجوم الطفولةِ
حتى أُشارك صغار العصافير
درب الرجوع.. لعشِّ انتظاركْ