ترجلت نعيمة لمشرقي عن صهوة الحياة، تاركة وراءها عبقا لن يمحى من الذاكرة المغربية الجماعية، فلم تكن تعلم نعيمة التي عشقت المسرح من الطفولة، أن مشيئة القدر ستقودها إلى رحلة غير عادية ستتجول فيها بين خشبات المسرح، وشاشات السينما، والإذاعات الوطنية، فبرجاحة عقلها، وتفرد موهبتها، وصدق نواياها استطاعت أن تتملك قلوب المغاربة وتصبح بحق “سيدة الشاشة المغربية”.
رأت النور للمرة الأولى في الدار البيضاء في سنة 1943، وعاشت طفولتها في حي الفداء، حيث نشأت في كنف عائلة ومحيط أكسباها روح النضال والمقاومة.
وفي تدوينة له، نعى فيها لحسن العسبي، وهو صحفي وكاتب وباحث في التاريخ المغربي الحديث، الراحلة نعيمة لمشرقي، قائلا إنها “تشربت روح تامغرابيت الأصيلة وليس تلك التي صارت موضة في حنايا درب السلطان و درب بوشنتوف بالدار البيضاء، فهي صعدت من بين عائلات العمال والحرفيين المقاومين بشرف من أجل مكان كريم تحت الشمس.. وفي شارع الفداء فتحت عينيها على ذاكرة المقاومة ونضال أولاد لبلاد من أجل الحرية والكرامة”.
وكان مسرح الطفولة عشقها الأول، حيث تألقت على خشبة المسرح بمشاركة لامعة في مسرحيات جمعت بين العمق الإنساني والشكل الفني البديع، على غرار “سلطان الطلبة” و”مدينة النحاس”، ولعل تجربتها مع الطيب الصديقي في مسرح الهواة كانت البوابة التي فتحت أمامها آفاقا جديدة، حيث قدمت أعمالا خالدة في ريبرتوار المسرح المغربي، فمن “السيدة كوديفا” إلى “درهم حلال”، لعبت نعيمة لمشرقي أدوارا تحاكي هموم المجتمع وأحلامه.
ولم يكن المسرح مجرد محطة فنية في حياتها، بل كانت المرآة التي تعكس طموحها اللامتناهي، حيث كانت دائما ما تحلق بحثا عن فضاءات أرحب، فانتقلت إلى السينما، حيث وجدت نفسها أمام عدسات أشهر المخرجين المغاربة، مثل سهيل بن بركة ومحمد عبد الرحمن التازي ووفريدة بورقية ومحمد إسماعيل، وقدمت أدوارا مميزة في أفلام تُعدّ من كلاسيكيات السينما المغربية، فما كان منها إلا أن تبدع في أعمال عديدة، من قبيل “عرس الدم” و”طبول النار” و”باديس” و”خريف التفاح” و”للا حبي” وغيرهم، إلى جانب تجسيدها لأدوار أخرى في أفلام عالمية مثل “البند الثاني” للمخرج الإيطالي موريزيو زاكارو.
وعلى الرغم من الشهرة التي كان يمكن أن تجلبها لها بعض الأدوار المثيرة للجدل، إلا أنها أبت إلا أن تظل مخلصة لقيمها، كما فعلت عندما رفضت المشاركة في الفيلم الفرنسي “شمس” مع النجمة صوفيا لورين، حين طلب منها أن تؤدي فيه دور خادمة لعائلة يهودية، إلى جانب رفضها المشاركة في الفيلم الإسباني “سعيد” للمخرج لورينزو صولير، لاحتوائه على بعض المشاهد المخلة بالحياء.
وفي السبعينيات، خاضت نعيمة تجربة التلفزيون، حيث قدمت العديد من الأعمال التثقيفية، كان أبرزها برنامج “ألف لام” الذي عُرفت فيه بدور “لالة فقيهتي”، وهي التجربة التي استطاعت من خلالها أن تخلق لنفسها قاعدة جماهيرية عريضة في صفوف المشاهدين المغاربة.
وكانت نعيمة لمشرقي من أوائل الفنانات اللواتي دخلن بيوت المغاربة من باب الأثير، فصوتها العذب والدافئ ومخارج حروفها السليمة وإلقائها الهادئ والعفوي، كانت تتسلل إلى قلوب المستمعين دون استئذان، لتجعلهم يترقبون مواعيد برامجها، سواء خلال فترة اشتغالها مع إذاعة ميدي 1 من باريس، أو من خلال البرنامج اليومي “نعيمة”، إلى جانب اختيارها لأداء التعليق الصوتي الخاص ببرنامج “لحبيبة مي” الذي كان يبث على القناة الثانية، مجسدة بصوتها حكايات أمهات جار عليهن القدر حين تخلى عنهم فلذات كبدهن.
ويصف العسبي نعيمة لمشرقي بأنها «عنوان كامل لـ “السيدة المغربية” تلك التي لها عطر معنى خاص في جغرافيات القيم.. وحين كانت تصدر على العالمين فوق خشبة مسرح أو شاشة تلفزيون أو شاشة سينما بالمغرب وايطاليا وفرنسا وهولندا، كنا جميعا نستشعر أنها نحن المغاربة” أمام باقي العالم، قيمة فنية وملامح ولغة “بلدية” مطواعة ورقة حنان في الصوت لا تكلف فيها ولاتصنع بل خامة كاملة لصوت مغربي أطلسي أصيل».
وما يعكس الجانب الإنساني العميق في شخصية نعيمة المشرقي، أنها كانت تعبر عن صوت من لا صوت لهم، وتساهم في تعزيز الوعي يقضايا حقوق الطفل، ما أهلها لتكون سفيرة للنوايا الحسنة لدى اليونسيف، بعد أن تقلدت منصب مستشارة للمرصد الوطني لحقوق الطفل. فلم يكن الفن بالنسبة لها مجرد مهنة، بل رسالة، حيث كانت تدرك جيدا أنه قادر على التغيير، لذلك سعت إلى توظيفه لخدمة القضايا الإنسانية، كما كانت قد نالت شرف توشيحها بوسام ملكي في سنة 2013 من قبل جلالة الملك محمد السادس.
ولم تتوقف مسيرتها هنا، بل استمرت نعيمة المشرقي في إبداعها في عالم التلفزيون، حيث أطلت على المغاربة في أدوار درامية مميزة، مثل “أولاد الحلال” و”دار الضمانة” و”رضاة الوالدين” و”علال القلدة” وغيرها من الأعمال التي جسدت من خلالها شخصيات نسائية قوية وملهمة، عكست صراعات ومآسي الإنسان المغربي، ما جعلها مقربة من قلوب المغاربة.
ولأن أدوارها كانت تتسم بالصدق والإحساس العميق، استحقت وبجدارة جوائز وتكريمات في مهرجانات فنية دولية، بما في ذلك جائزة أفضل ممثلة في مهرجان مالمو 2021 عن فيلم “خريف التفاح”.
ولأن شرارة فراقها أشعلت حزن العسبي الذي كانت دائما عطوفة عليه وتشحنه بطاقة إيجابية، ما كان منه إلا أن ينعيها بطريقته، حيث قال في تدوينته: “كم كنت دوما عطوفة علي بصدق ظل يجخلني دوما، وكم كانت تقثك في شخصي المتواضع تشحنني بالايجابي العالي..للالة نعيمة بسلامة.. يا ريحة بلدية بحال الزهر النابت في تراب لبلاد، يا سبنية تلاعبها الريح في دويرة ليام يا الميمة الحنينة بحال لما ديال جنان السبيل راوي شلا لسان عطشان، لالة نعيمة بسلامة، مرضية كنت مرضية بقيتي مرضية حتى عند الله”.
تعليقات( 0 )