بقلم: عبد المولى المروري
من الطبيعي جدا أن يعتمد النظام السلطوي في سياسته وتدبيره للشأن العام، والتعامل مع الشعب أساليب وطرقا لا تحترم حقوق الإنسان، ولا كرامة البشر، قد يزيد ذلك وقد ينقص حسب الوضع السياسي والاجتماعي، وإكراهات الداخل وضغوط الخارج.
وقد اعتدنا على أن ينتهك هذا النوع من الأنظمة الحقوق، ويخرق القوانين، ويتسبب في التخلف والجهل، ويمعن في إهدار كرامة المواطن والمال العام معا، والجمع بين السلطة والمال دون وجل أو حياء، وألفنا أن يغتني رجالاتها عن طريق الريع والاحتكار والاستغلال بضمير ميت.. هذا الأمر أصبح معتادا وطبيعيا جدا .. وكل هذه الآفات السياسية والحقوقية، والمآسي الاجتماعية والإنسانية جاء الإسلام – كما هو معلوم عند العامة والخاصة – لتكون من بين القضايا التي يحاربها ويدعو إلى مواجهتها والتصدي لها.. فقد قال الله تعالي في كتابه العزيز : {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة الشورى 42)، وجاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} » (رواه البخاري ومسلم).
عاش المغرب خلال عدة سنوات على وقع تجاوزات وانتهاكات جسيمة وخطيرة لحقوق الإنسان وارتفاع منسوب الظلم الاجتماعي، وهذا واقع لا تخطئه العين ولا ينكره إلا جاهل أو كاذب أو متواطئ..
فبدءا باعتقال شباب الريف بسبب مطالب اجتماعية عنوانها الأبرز هو الانتفاضة ضد الظلم الاجتماعي التي تعيش تحت وطأته حاضرة الريف، ومرورا باعتقال الصحفيين والمدونين.. ثم تدمير عدة قرى وأحياء وبيوت على رؤوس ساكنيها وتشريدهم دون تعويض أو بديل.. وأخيرا وليس آخرا هو منهج الإهمال الذي وصل حد الاستخفاف والاحتقار لضحايا زلزال الحوز واعتقال كن من استنكر ما تعيشه هذه الساكنة من ضياع وضنك وبؤس.. وكذا إفراغ جزء من ساكنة حي المحيط من شققهم ودورهم قصد هدمها وتفويت الأرض لبعض أباطرة العقار دون استحضار لمآسي تلك الأسر أو تعويض لفقدانهم منازلهم التي سكنوها لعشرات السنين..
أمام كل هذا لفت انتباهي غياب فئة من الناس كان من الواجب عليها أن تكون في مقدمة من يحتج ويستنكر على ما وصل إليه المغرب من ظلم اجتماعي، وطبقية رهيبة، وانتهاكات للحقوق المدنية والاجتماعي، وكل الحقوق الأساسية التي حرم منها الشعب، وكان عليها أن تكون في طليعة من يناضل ضد هذا الواقع الأسود والبئيس.. وهي فئة علماء الدين، وزعماء التيار الإسلامي ومثقفيه ونخبته المتنورة.. أين هؤلاء من كل ما يقع؟ لا نسمع لهم ركزا.. ولا قولا..!! ولا نرى لهم عملا ولا تدخلا .. لا موعظة.. ولا كلمة.. ولا نصيحة..!!
أين أولئك الذين تنتفخ أوداجهم، وترتعد فرائسهم، وتحمر وجوههم، وتجحظ أعينهم كلما تم «المس» بمادة تهم الأحوال الشخصية أو مدونة الأسرة أو تعدد الزوجات؟ أو تكلم علماني أو حداثي عن إلغاء عقوبة الإجهاض أو الإفطار جهرا في رمضان، أو تجريم التعدد؟ وغير ذلك من الأمور التي يقيمون الدنيا من أجلها ولا يقعدونها! هل ظلم العباد واحتقارهم وإهدار كرامتهم وغصب حقوقهم تعد من القضايا التي لم يتكلم عنها الإسلام، واستثناها من دعوته وخطابه وتشريعه وجهاده؟
قال الذهبي رحمه الله : «الظلم يكون بأكل أموال الناس وأخذها ظلمـًا، وظلم الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء»، وقد عده من الكبائر، ونقل عن بعض السلف قوله: «لا تظلم الضعفاء فتكون من شرار الأقوياء»، ثم عدد صورًا من الظلم منها: أخذ مال اليتيم ـ المماطلة بحق الإنسان مع القدرة على الوفاء (…)، وقد عدها ابن حجر ضمن الكبائر، وكل كذلك كائن بزيادة، وموجود بتوسع، وممارس برعونة من قبل السلطة وأعوانها وأجهزتها..
أقول هذا الكلام وأنا أستحضر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى: «يقول الله: يا عبادي، إني حرَّمْتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا»..
أقول هذا الكلام وأنا أستحضر مجموعة من الأحاديث أسوقها لهؤلاء العلماء وزعماء الحركة الإسلامية ومثقفيها ومناضليها.. ربما توقظهم من سباتهم الثقيل، وتحرك نفوسهم الخاملة، أو تأنب ضمائرهم المخدرة.. فيستفيقوا من غفلتهم ويتخلوا عن ركونهم..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «مَن ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»..
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” لا يقفن أحدكم موقفا يُقتل فيه رجل ظلما ، فإن اللعنة تنزل على من حضره ; حيث لم يدفعوا عنه ، ولا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما ; فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه ” .
وروى ابن أبي الدنيا -في كتاب الصمت- بسنده، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من ذكر عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فلم ينصره ولو بكلمة أذلة الله في الدنيا والآخرة) .
وعن سهل بن حنيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره؛ أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة»
وعن جابر بن عبد الله وأبي أيوب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته».. فكم من حرمة انتهكت؟ وكم من عرض انتقص؟ وكم من مسلم ظلم؟ وأنتم تنظرون، وتسمعون، وتخذلون!!
وروى أبو عبد الله محمد بن منده- في كتابه معرفة الصحابة- من حديث يحيى بن عبد الحميد (الحماني) قال: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن مغيرة بن زياد، عن عدي بن عدي، عن العرس. قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سيليكم ولاة يعملون أعمالًا تنكرونها فمن أنكر سلم، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)، فهل رضيتم أيها العلماء وزعماء الحركة الإسلامية بما يقع للشعب المغربي من ظلم، ونهب لثرواته، وانتهاك لحقوقه، وملاحقة والتشهير ببعض من أنكروا كل هذا؟ هل رضيتم؟؟
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الله -سبحانه وتعالى- (وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأي مظلومًا فقدر أن ينصره فلم يفعل)، فماذا تنتظرون؟ وقد وعد الله وأقسم بعزته وجلاله بالانتقام من كل ساكت عن نصرة مظلوم؟ وما روى أبو القاسم الأصبهاني -في الترغيب والترهيب- بسنده، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانًا ظالمًا لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو عليه خياركم فلا يستجيب لكم وتستنصرون فلا تنصرون وتستغفرون فلا يغفر لكم)..
وهل يحتاج هذا الحديث إلى شرح أو تعليق؟ رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية لما أتاه الجلاد في سجنه بدمشق وقال له: اغفر لي يا شيخنا فأنا مأمور.فقال له ابن تيمية: والله لولاك ما ظلموا.!ورحم الله الإمام سفيان الثوري لما اتاه خياط فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة؟فقال له سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط.
وقال أبو بكر المروزي لَّما سجن أحمد بن حنبل جاء السجان فقال له: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟قال الإمام أحمد: نعمقال السَّجَّان : فأنا من أعوان الظلمة؟قال الإمام أحمد فأعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فْأما أنت فمن الظلمة أنفسهم.
أقول هذا الكلام وأنا أستحضر كلام الصحابي الجليل ربعي بن عامر أمام رستم قائد الفرس: «لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة»..
فأين دوركم أيها العلماء والزعماء وأنتم ترون العباد تحت الظلم والجور والضيق؟ البعض منهم لسان حاله يقول بالقاعدة الشرعية: «أهون الشرين وأخف الضررين».. بمعنى أن من شأن التصدي لكل هذا الظلم بالكلمة والوعظ والنصيحة للسلطة قد يؤدي إلى ما هو أسوء.. فالقليل من الظلم أهون من كثيره.. حسب زعمهم.. والسجون أسلم من الدماء.. وسلب الحرية أخف من سلب الأرواح.. وأمامنا نماذج قريبة (سوريا، مصر، ليبيا.. ).. وهذا كلام حق أريد به باطل، فهل يخفي الاستشهاد بمثل هذه القواعد كمية كبيرة من الجبن والركون، أو يتستر على جملة من المصالح الشخصية يُخشى ضياعها أو فقدانها؟
لا جرم أن مثل هذه القواعد الشرعية تستغل خارج سياقها ونوازلها.. موقف علماء الدين المغاربة وجل الدعاة والوعاظ وزعماء الحركة الإسلامية غريب وعجيب، لا علاقة له بتعاليم الإسلام، ولا بقيمه، ولا بطبيعته، ولا بأهدافه، ولا برسالته الإنسانية.. فهم يرون ويسمعون كل هذا الظلم ولم يحرك فيهم ساكنا، ولا يململ شعرة واحدة من بقيايا شعرهم الذي تساقط عبر زمن الدعوة الإسلامية الطويل.. حيث كانوا يحدثوننا عن صبر بلال بن رباح وآل ياسر، وشجاعة عمر بن الخطاب، ومحنة الأئمة العظام، سعيد بن جبير والإمام مالك، وأحمد بن حنبل وابن تيمية… شغلهم الشاغل حماية مدونة الأسرة من دسائس العلمانيين والحداثيين.. أما ظلم السلطة وافتراس الأوليغارشية للشعب فذلك خارج تخصصهم، وبعيد عن اهتمامهم، وغريب عن دعوتهم ووعظهم..
يا علماءنا الأجلاء! يا زعماء الحركة الإسلامية الفضلاء! ألا ترون ضحايا زلزال الحوز وهم مشردون وعراة بلا مأوى أو سقف كريم يحميهم من الأمطار والبرد القارس وقد جمع المغرب الملايير من المساعدات والتبرعات والقروض من أجل إعادة إسكانهم وإصلاح أضرارهم! أين ذهبت كل تلك الأموال؟ وأين اختفت كل تلك الوعود؟ وأين أنتم من هذا الواقع المأساوي؟
يا علماءنا الأجلاء! يا زعماء الحركة الإسلامية الفضلاء! ألم تروا أو تسمعوا لما وقع للقرى الساحلية القريبة من مدينة أكادير الذين هدموا البيوت على رؤوسهم وقاموا بتشريدهم؟ والأمر نفسه وقع في العديد من مناطق المغرب من أجل أين يستفيد أباطرة البناء والعمران من بناء الفنادق والمنتجعات.. واليوم يحدث الأمر نفسه بمدينة الرباط..
لقد قال أبو ثور بن يزيد ذات يوم: «الحجر في البنيان من غير حله عربون على خرابه»، وقال غيره: «لو أن الجنة وهي دار البقاء أسست على حجر من الظلم، لأوشك أن تخرب».. هذه الأبنية التي بنيت على تشريد السكان الفقراء ومصادرة دورهم مآلها ما قاله أبو ثور وغيره من العلماء الربانيين.. ولو بعد حين.. «إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ»..يا علماءنا الأجلاء! يا زعماء الحركة الإسلامية الفضلاء!
ألا تلاحظون أن شبابنا يعتقل ويحاكم من أجل تدوينة صغيرة تدين التطبيع أو تستنكر الفساد، أو تحتج على الظلم الاجتماعي؟ وكل ما قام به هؤلاء الشباب أنهم نابوا عنكم في الصدع بالحق عندما لا حظوا صمتكم وغيابكم، وانشغالكم بما لا يرفع ظلما، ولا ينصح ظالما، ولا ينصر مظلوما.. حتى لا أقول جبنكم وتواطؤكم..
جاء في كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: يذهب الصالحون ويبقى أهل الريب. قالوا: يا عبد الله ومن أهل الريب؟ قال: قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر…
هذا الصمت المريب الذي استحكم على أفواه العلماء والزعماء في الحقل الإسلامي يساءل هؤلاء عن طبيعة نشأتهم.. عن تاريخهم ومسارهم العلمي والنضالي والحركي.. يساءلهم عن مئات أو آلاف الخطب والمحاضرات واللقاءات الدعوية والكتابات والمؤلفات..
أين اختفى وتبخر كل ذلك؟ ويساءل أحدهم عندما استشهد بقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه «غرغري أولا تغرغري فو الله لا تذوقي اللحم أبداً حتى يشبع أبناء المسلمين»، وها هم المسلمون وأبناء المسلمين في المغرب جوعى ومشردون في خيام مهترئة تحت البرد والمطر شتاء.. وتحت القيض والحر والشمس صيفا.. إن هذا الصمت يساءل أصحابه في الدنيا كما في الآخرة.. لا مفر لهم من ذلك.. لأنهم رأوا المنكر فلم ينكروه.. وشهِدوا غياب المعروف فلم يأمروا به.. «كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ».. يقول الله سبحانه وتعالى : ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ))..
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد!