في طفولتي التي بَعُدَتِ الآن كثيرا (“إذا كان قدرنا أن نكبر، فإن مأساتنا أننا نكبر بعيدين عن طفولتنا” كما قال الكاتب الفلسطيني فيصل دراج)، كانت “ليلة يناير” / “إيض ن ناير” التي تدشن لبداية السنة الفلاحية بالتقويم الشعبي للمغاربة ذات طقوس خاصة مميزة. هناك في قريتنا بأعالي الأطلس الكبير الجنوبي الغربي عند قدم جبل سيروا العالي ب 3350 مترا عن سطح البحر. قبل أن يحولها منطق السياسة واجتهاد النخب الجديدة مغاربيا إلى ما تصفه ب “رأس السنة الأمازيغية” (لو عاد جدي وجدتي رحمهما الله مثلا إلى الحياة وقلت لهم رأس السنة الأمازيغية لتعجبا من ذلك واستغرباه).
وهي الطقوس التي تليق مادة قائمة الذات لدراسة سوسيو – سيميائية تميط اللثام عن الكثير من تفاصيل الوعي الشعبي الأمازيغي كان قائما هناك في تلك الأعالي.
لعل أهم ميزة للإحتفاء بتلك الليلة التي تصادف ليلة 12 / 13 يناير الميلادي، تكمن في أنه احتفال نسائي في المقام الأول، حيث تقوم نساء القرية غير المتزوجات بإشعال نار كبيرة تقفزن فوقها واحدة وراء الأخرى وهن ترددن:
“نضوغ تا بْنَايُّوتْ غاساد أولا إيمال”
(أقفز اللهيب اليوم وغدا أيضا).
يجتمعن بعدها في منزل من منازل القرية بعد غروب الشمس لطهي العصيد بالذرة أو بالشعير، فيما تتكلف النساء المتزوجات بالقرية بإعداد أطباق الكسكس. لكن ما أن يهل موعد صلاة العشاء ويكون البدر في اكتماله حتى يخرجن في ظلمة الليل إلى مدرجات حقول القرية المسقية يرددن مواويل توجهن من خلالها دعوة إلى الجن للحضور إلى حفلهن الساهر.
حين تعدن إلى منزل الحفل يضعن بعضا من العصيد في سطل نحاسي ويصعدن به إلى النجوم في السطح حيث يوقفن يد السطل وينزلن بسرعة، في انتظار أن يصلهن رنين سقوط اليد النحاسية على حواف السطل علامة بالنسبة لهن أن الجن قد استجاب لدعوتهن وأنه حضر. يسرعن بالصعود لرؤية العلامة على العصيد التي تكون أشبه بمخالب الطير ويتسابقن لقضم جزء من تلك العصيد الباردة لاعتقادهن أن ذلك ترياق لصحة مضمونة لسنة كاملة.
تنزلن بعدها إلى غرفة واسعة وتشرعن في الرقص والغناء في مواويل عشق آسرة، ثم تفرشن إزارا أبيض كبير وتجلسن بشكل دائري حول حوافه، وتأخد كل واحدة منهن بالتتابع بنديرا دائريا (طبلا) وتطلقه عند أول الإزار فإن خرج عن نطاق الإزار فهي العلامة أن تلك الفتاة العازب ستتزوج إلى خارج القرية، أما إذا دار الطبل دورتين وسقط في وسط الإزار فتلك العلامة على أن الفتاة العازب تلك ستتزوج من واحد من فتيان القرية. تلي ذلك زغاريد ومووايل أمازيغية جميلة جدا بأصوات نسائية غاية في الرونق والصفاء.
بعد تناول العشاء وقد جاوزت الساعة منتصف الليل، تضعن إناء من العصيد تحت النجوم في سطح ذات المنزل، ولا تعدن إليه سوى بعد آذان الفجر، فإن وجدن فيه تبنا فإن تلك العلامة على أن الموسم الفلاحي سيكون خصبا. أما إن وجدن فيه آثار زغب ماعز أو غنم فإن تلك العلامة على أن قطيع الأغنام والماعز سيتضاعف تلك السنة في كامل القرية.
تغادرن المنزل المختار ذاك في أول خيوط الصبح بعد تناول الفطور حيث تعود كل واحدة منهن إلى منزل أهلها، حيث تنتهي ليلتهن، أو ليلة حريتهن التي كن فيها سيدات القرية بامتياز.
كانت تقام تلك الطقوس كل “إيض ن ناير” حتى حدود نهاية السبعينات من القرن الماضي. أما اليوم، فالإحتفالية صارت عائلية محضة داخل حيطان كل بيت على حدة، يُكتفى فيها فقط بعصيد وزيت زيتون ثم أكلة دسمة غنية جدا بالدجاج البلدي ونبينا عليه السلام.
انتهت تلك الطقوسية النسائية الجماعية القديمة، ومعها كما تردد دوما والدتي شافاها الله وأطال عمرها “انتهت أيام البركة”.
لكل زمن منظومته القيمية والسلوكية على كل حال.
لحسن العسبي
تعليقات( 0 )