د. اياد البرغوثي*
عند البحث في تعريف الصهيونية، نجد أنها حركة سياسية يهودية، تسعى “لهجرة” اليهود الى فلسطين وتأسيس دولة لهم هناك. لكن ذلك على ما يبدو هو الجزء الأوضح، لكن ليس بالضرورة الأهم، في المشهد. فبعد أن تأسست اسرائيل كدولة لليهود على انقاض فلسطين برزت أسئلة كثيرة؛ فماذا يعني أن تبقى الصهيونية حاضرة بكل هذه القوة، ليس في اسرائيل وحدها حيث يفترض منطق الأشياء، بل وفي معظم دول العالم خاصة القوية منها؟، وما الذي يدعو قادة دول كبرى مثل الرئيس الأمريكي بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني ستارمر، لتبني الصهيونية؟، ثم ما الذي يحول دون “عودة” شخصيات مثل وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، ومن قبله كيسنجر، الى اسرائيل؟، وهم اليهود والصهاينة الذين يُفترض انهم ساعدوا على تحقيق “الحلم” الصهيوني بقيام “دولة” لليهود ورفدها بكل اسباب القوة.
ثم ماذا يعني أن تأخذ مناهضة الصهيونية في كثير من دول العالم وخاصة في الغرب، بُعدا “جنائيا” مع أنها في واقع الأمر ليست اكثر من مسألة رأي في إنشاء دولة لمجموعة بشرية، كما هو بالنسبة لكثير من المجموعات. على سبيل المثال، هل الأمريكي الذي يرى أن لا ضرورة لقيام دولة لليهود هو كذلك الأمريكي الذي يرى أن لا ضرورة لقيام دولة للكرد مثلا؟.
الصهيونية والحربان العالميتان
ان نظرة بانورامية الى الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وهما اللتان نتج عنهما النظام العالمي المعاصر، وتفحصهما من حيث الأسباب والنتائج والحيثيات، تشير الى الدور “الملفت” للصهيونية في كل التفاصيل وأدقها، ذلك الأمر الذي لم يتم التوقف عنده، أو كان توقفا عابرا وسطحيا (وربما ساذجا). أما الآن، وقد مر ما يقارب القرن على ولادة هذا النظام العالمي، فإن الظروف باتت اكثر ملاءمة لظهور مؤرخين “جدد”، اكثر معرفة وحيادا و”جرأة” لدراسة الدور الذي لعبته الصهيونية في تلك الحقبة، و”الانجازات” التي حققتها، وموقعها في النظام العالمي الناشيء.
اكثر ما تم الحديث عنه في هذا المجال هو النتائج الجيوسياسية التي نتجت عن الحربين. فيما يتعلق بالحرب الأولى كان الحديث عن انهيار الامبراطوريات المعروفة في ذلك الوقت، واتفاقيات سايكس بيكو التي قسمت النفوذ على تركة تلك الامبراطوريات بين المنتصرين، وبروز الولايات المتحدة كقوة صاعدة، وإنشاء عصبة الأمم.
بالنسبة للحرب العالمية الثانية، فأكثر ما يتم الحديث عنه هو انقسام “العالم” الى معسكرين متنازعين الاشتراكي والرأسمالي، وإنشاء الحلفين العسكريين الناتو ووارسو، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة أعظم، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
يتم الحديث ايضا وإن بنبرة أقل، حول النتائج الاقتصادية للحربين العالميتين، والتي تتلخص في تَسَيّد الدولار الأمريكي على باقي العملات نتيجة اتفاقية بريتون وودز في العام 1944، وإنشاء البنك الدولي، وكذلك ما نجحت فيه الولايات المتحدة لاحقا وهو اعتماد النفط كسلعة استراتيجية وربطها بالدولار.
هكذا قُدمت لنا صورة العالم في أعقاب الحربين العالميتين، وهذا هو الذي “تلوكه” السنة السياسيين والاكاديميين وذوي العلاقة عند الحديث عن النظام الدولي. لكن “المُغَيب” عن المشهد، والحاضر الثقيل فيه، هو الصهيونية التي خرجت المنتصر الأكبر من كل ما جرى، في السياسة والاستراتيجيا، وفي الاقتصاد، وكذلك وربما بصورة أهم، في الثقافة والايديولوجيا.
ففي الحرب العالمية الأولى حدث وعد بلفور بالعمل على “منح” اليهود وطنا “قوميا” (دولة) في فلسطين، وحدثت اتفاقية سايكس- بيكو التي شكلت المنطقة لتكون ملائمة لإقامة تلك الدولة، وأُسست عصبة الأمم التي كان من أهم قراراتها وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، والذي يعني وضع مَن وعد الصهاينة بمنحهم فلسطين مسؤولا عنها.
أما ما نتج عن الحرب العالمية الثانية، فقد قامت دولة اسرائيل على معظم مساحة فلسطين، وأعطى الوضع الجديد للدولار الأمريكي مزيدا من النفوذ المالي (والسياسي) للصهاينة الذين يسيطرون عمليا على الاقتصاد الأمريكي (البنك الفدرالي) و(الوول ستريت) وكذلك البنك الدولي واقتصاد الدول الاوروبية الكبرى ونسبة كبيرة من الاقتصاد العالمي برمته.
أما الأمم المتحدة التي أُسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فكان من مآثرها ليس فقط إنشاء اسرائيل كدولة وحيدة في العالم نشأت بقرار “أممي”، بل صيغت قوانينها وأنظمتها بشكل يتلاءم مع سعي الصهيونية لإحتلال مكانة استثنائية في العالم.
الصهيونية… المنتصر الأكبر “ايديولوجيا”
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم عموديا بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي. انتصرت الاشتراكية في الشرق والرأسمالية في الغرب، و”انتصرت” الصهيونية في كليهما. وانقسمت الكتلتان حول كل القضايا الا في تلك التي لها علاقة بالصهيونية، فكلاهما ايد قيام اسرائيل منذ لحظاتها الأولى، وكلاهما زود اسرائيل بالسلاح قبيل انشائها وبعده. السبب الوحيد الذي يبدو منطقيا لهذا التلاقي بين الكتلتين المتصارعتين على الوقوف مع إسرائيل دون غيرها من القضايا، هو النفوذ الصهيوني في كلا المعسكرين، ولا داعي لأي تفسير “تبرير” آخر كما يفعل البعض احيانا، وتكون النتيجة تخليا عن “رزانتهم” الفكرية مقابل التشبث بمقولات “ايديولوجية” فقدت معناها.
لقد ظهرت الهيمنة الصهيونية واضحة على المشهد “الايديولوجي” في النظام العالمي المعاصر الذي تشكل بعد الحرب الثانية. كان ذلك منذ أن وضعت تلك الحرب اوزارها وتقرر محاكمة كبار النازيين في نورنبرغ، حيث كانت التهم الموجهة لهم هي ارتكاب الجرائم ضد اليهود و”آخرين”. هؤلاء الضحايا “الاخرين” الذين سُموا كذلك من قبل حكوماتهم هم بغالبيتهم مواطنون للدول التي انتصرت في الحرب وقامت بتشكيل المحكمة. لقد بلغ عددهم عشرة اضعاف الضحايا اليهود.
ومثلما “فرضت” الصهيونية نفسها على الدول المنتصرة على اختلاف انظمتها، فرضت نفسها ايضا على المؤسسات الدولية وعلى نظام العدالة الدولي، حيث لم تستطع هيئة الأمم معاقبة اسرائيل على كل اعتداءاتها واحتلالها للاراضي الفلسطينية وأراض عربية أخرى. أما نظام العدالة المتمثل بمحكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية، فقد صيغ بطريقة تخدم الصهاينة بالأساس، فتم اعتبار “اليهودي” ضحية أبدية، ومن يقف ضد عدوانه مجرم ابدي بمن في ذلك محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات، الدولية التي تم تهديدها عندما بحثت في مسألة العدوان الاسرائيلي على غزة، على اعتبار أن تلك المؤسسات وجدت اصلا للدفاع عن اسرائيل و”اليهود” وليس لمحاكمتهم.
فقط في مرحلة واحدة قصيرة لم تكن الصهيونية في الاتحاد السوفياتي متنفذة بما فيه الكفاية، استطاعت الجمعية العامة للأمم المتحدة استصدار قرار في العام 1975 يعتبر الصهيونية شكل من اشكال العنصرية، ثم تم التراجع عن ذلك القرار في العام 1991 قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي.
لقد تجلت الهيمنة الايديولوجية الصهيونية على النظام العالمي دولا ومؤسسات وثقافة، عندما تم اعتبار مناهضة اسرائيل والصهيونية معاداة للسامية. في هذه الحالة اصبحت الصهيونية “عقيدة” لكثير من دول العالم الكبرى، وثقافة سياسية مهيمنة في تلك البلدان التي وصلت لحد التسامح في اهانة رموزها الوطنية، بينما تُجرم اي عمل مناهض للصهيونية كما يحدث في الولايات المتحدة.
في العلاقة بين الصهيونية والغرب
من كل ما سبق، يتبين أن انشاء دولة لليهود في فلسطين كان هدفا – على أهميته – ثانويا بالنسبة للحركة الصهيونية، في الوقت الذي تم “تسويقه” على أنه الهدف “الوحيد”، لكن هدفها الأساس كان في واقع الأمر “الهيمنة” على النظام العالمي، سياسيا واقتصاديا وفكريا (ايديولوجيا). هذا ما نلاحظه بوضوح هذه الأيام، ففي السياسة تقف دول كبرى (الولايات المتحدة وحلفائها) الى جانب اسرائيل بكل قوة، في حين تتخذ دول أخرى (الصين وروسيا) موقفا “خجولا” وأقل بكثير مما يتوقع منها في ظل ما ارتكبته اسرائيل من جرائم ولم تزل.
وفي الاقتصاد ما زال الصهاينة على رأس المتحكمين باقتصاد العالم وثرواته، في كثير من الدول الكبرى والصغرى، وفي النظام الاقتصادي العالمي. والسياسة هي “ترجمة” للاقتصاد كما هو معروف، والثقافة ميدان مفتوح على كليهما.
عادة ما تكون العلاقة “الخاصة” بين اسرائيل وامريكا موضع نقاش وتساؤل.. ما هي طبيعة تلك العلاقة؟، وما السر وراء كونها علاقة “عضوية” الى هذا الحد؟، وأي منها “يقود” الآخر؟، وهل اسرائيل دولة وظيفية تقوم بما هو مطلوب منها أمريكيا؟، أم أن اسرائيل هي التي تملي على الولايات المتحدة سياساتها ومواقفها بفعل قوة اللوبي الصهيوني فيها؟.
ومما يعطي هذه الأسئلة بعضا من شرعيتها، بعض المظاهر التي تثير تساؤلات في تلك العلاقة بين الدولتين، فماذا يعني أن يأتي وزير خارجية الولايات المتحدة الى اسرائيل ويقول “جئتكم كيهودي”، بالعادة، و على سبيل المثال، اذا وصل شخص مجنس خليجيا من أصول فلسطينية مثلا الى رتبة رئيس قسم في إحدى الوزارات، يوصي افراد عائلته أن يخفوا أصولهم، ويحرص على أن لا يخلع “دشداشته” ليلا ونهارا، ويتخذ موقفا معاديا من حرف “الجيم” الذي قد “يكشفه” في يوم من الأيام.
اذاً ما الذي يفسر هذا “التسامح” الأمريكي الذي يسمح لوزير الخارجية، وهو المنصب الثالث في الولايات المتحدة بعد الرئيس و نائبه ، كي يبرز “يهوديته” على امريكيته؟، بعد أن أصر صاحب المنصب الأول على إبراز صهيونيته. وماذا يعني أن يستقبل الكونجرس الأمريكي رئيس الحكومة الاسرائيلية بشكل يفوق ما يقوم به تجاه رئيس الولايات المتحدة نفسه؟.
ما يفسر ذلك كله، هو هيمنة الصهيونية التي ترسخت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على النظام الدولي. فالصهيونية هي التي “تقود” امريكا وإسرائيل وغيرها. انها الدولة “العميقة” في كلتيهما، وأي “خلاف” بينهما ما هو إلا خلاف بين عضوين في نفس المؤسسة أو العائلة.
“الفلسطينية”… ايديولوجيا التحرر العالمي
في مقابل الصهيونية، التي هي “ايديولوجيا” الرأسمال العالمي (اليهودي اساسا) لفرض هيمنة القوة والعنصرية والاستعمار على النظام الدولي الذي احتاج ترسيخه الى حربين عالميتين، ذهب ضحيتها اكثر من سبعين مليون انسان، فهي الايديولوجيا التي تصنع الحروب والفوضى وتعتاش عليها وتنمو بها، ولا تستطيع أن تكون غير ذلك، وذلك بسبب جوهرها الاقتصادي المالي.
وهي بعكس كل الايديولوجيات المعروفة، الوحيدة التي اعتمدت الإرهاب وقدرتها على ايقاع الأذى، بدل الاقناع لكسب مؤيديها
. مقابل ذلك تأتي “الفلسطينية”، التي أخذت شعوب الأرض تدرك أنها ليست فقط حركة تحرر لشعب تحت الاحتلال، وإن ارتبط إسمها بذلك، أو حركة اقليم (الشرق) يسعى للتخلص من الهيمنة، بل هي (وهكذا يجب أن تُفهم) ايديولوجيا كل المضطهدين والمستلبة حقوقهم والمزيفة ثقافتهم في كل العالم، والمتطلعين الى التخلص من هذا النظام العالمي الظالم والمتوحش، وخلق نظام عالمي بديل يقوم على العدل والمساواة والحق والتعاون. لم تعد “الفلسطينية” موقفا متضامنا مع فلسطين وقضيتها، بل هي منظومة فكرية تتعلق بالإنسان وقيمته وقيمه وأخلاقه وحقوقه، ومن الحرية ورفض الظلم.
و”الفلسطينية”، بعكس الصهيونية “ايديولوجيا” تعتمد سمو قيمها واخلاقها، وتنتشر بمنطقية طرحها وعقلانية اهدافها. انها المرتكز الثقافي والاخلاقي للنظام العالمي العتيد.
ليس من الضروري أن تكون فلسطينيا (Palestinian ) بالمعنى القومي حتى تكون فلسطينيا (Palestinist) بالمعنى الايديولوجي.. كل ما تحتاجه هو أن تؤمن بحق الإنسان وحرية الشعوب وبالانسانية، وتدرك خطورة التعايش مع ايديولوجيا الهيمنة والحروب.
*رئيس الشبكة العربية للتسامح
تعليقات( 0 )