بقلم: ابتسام مشكور
الفضيحة التي ظهرت قبل سنوات واختفت عادت إلى الواجهة، لكنها هذه المرة بحجم أكبر ،مثل جبل الثلج. فالفضائح مثل الجثث التي لا تدفن كما ينبغي دائما ما تعود إلى الظهور.
سنة 2017 منحني رئيسُ التحرير الضوء الأخضر لإنجاز تحقيق صحفي اقترحته عن أستاذٍ في إحدى الجامعات المغربية، يقايض النجاح في مادّته بـ”إمّا… وإمّا”.
شهرٌ من التحضير، لأفكّك خيوط قصة غريبة بطلتها شابة جميلة حلمت بالغناء، وجاءت تطلب “دفعة” بحكم معرفتي بأهل الميدان. فاكتشفتُ أنها تغنّي ‑مُكرهة‑ على أوتار أستاذ جامعي. اختار المتاجرة على رؤوس الأشهاد، “على عينك يا ابن عدي”. لا وعود حبّ، لا قناع زواج، عرض مكشوف “جسدك مقابل النقطة”. أما الطلبة الذكور فحصّتهم «قطع حشيش» معتبرة، شعار الرجل واضح: “ينجح من يحسّن المزاج أولا”.
بعد الإحاطة بجوانب الملف، وبالضبط في “le jour J”، خنق هاتفٌ القصة في اللحظة الأخيرة، ثم ساد صمت يشبه صمت مشهد الإعدام، حين يرن هاتف مدير السجن ويأتي “نداء الرحمة” في الأفلام المصرية.
رئيس التحرير يأمرني بتوقيف التحقيق، وحجته: “وصلتني تعليمات من فوق”.
فوقُ من؟ لا أحد يجرؤ على السؤال.
طلبتُ أن أكمل التحقيق على مسؤوليتي، كباقي التحقيقات التي فككتُ خيوطها ودفعتُ ثمنها وحدي.
ردّه كان قاطعا : لا يا ابتسام، انتهى الموضوع. عودي إلى المكتب.
اليوم، بعد ثماني سنوات، ينفجر ملف مشابه تقريبا بأكادير، لكن ببعد أكبر: بيعُ مقاعد الماستر، وشهادات “تحت الطلب”، وثروة تُقاس بالمليارات، ولوائح خرّيجي «كارتون» يتجوّلون في الإدارات، والمؤسسات، وربما يجلس بعضهم اليوم على مقاعد القضاء..
قد تُسفر التحقيقات في الأيام القليلة القادمة عن أسماء جديدة، وتكشف ما كنا نجهله، من يدري؟
الرسائل كانت واضحة، ليس في صالة تحريرنا فقط.
فجّر محامٍ أول أمس قضية طالب دقّ ناقوس الخطر سنة 2018 حين أشار إلى الأستاذ المعني بالفساد، فجاء الجواب على السريع حكم ابتدائي قضى بغرامة 30 ألف درهم، و10 ملايين سنتيم تعويضا لـ«شرف» الأستاذ، قبل أن تنصفه محكمة الاستئناف .
لكن الرسالة وصلت: من يقترب يُحرَق.
في الأنظمة الديمقراطية، يكفي تحقيق صحفي، أو مجرّد شبهة تضارب مصالح، كي يضع وزيرٌ مفاتيحه على مكتب رئيس الحكومة.
كما وقع لوزير الدفاع الألماني كارل‑تيودور غوتنبرغ سنة 2011، حين اكتشف مدوّنٌ قانوني تطابقا بين أطروحته للدكتوراه وصفحات منقولة لم يشر إلى مصادرها.
واجه اتهامات بسرقة أجزاء من العمل، فاعتذر، وغادر الحياة السياسية.
وإنْ اعتبرتها المستشارة أنغيلا ميركل خسارة لحكومتها، فقد أقرت بتضرّر صورته.
في تلك الدول، تُعامَل الشهادة الجامعية كعقد اجتماعي مقدّس.
تزويرها، أو الاتجار فيها، خيانة جماعية تطيح بالرؤوس.
أما عندنا، فـتُحوَّل إلى «سبّوبة» يُقتات منها، وقد تصل عائداتها إلى 8 ملايير.“إلى حسبنا شحال تعطينا من ديبلوم؟ ممكن نوصلوا لـ800 Diplômés بالماستر؟”.
حين كانت الشابة تسرد لي حكاية أستاذ التعليم العالي “صاحب المزاج العالي”، ظننتها قصة فردية تنتهي بانتهاء الفصل الدراسي.
تبيّن اليوم أنها فصل واحد في رواية أطول: رواية جامعة تبيع المعرفة بالقطعة، ودولة تؤجّل مواجهة الحقيقة.
في 2017، أُخمد تحقيق بهاتف؛ في 2025، لم يعد في الهاتف متّسع للتستّر على هذا العار.
الخطوة التالية لن تكون للصحافة وحدها، بل للقضاء والرأي العام:
إمّا أن نستعيد ثقة “الشهادة” أو نعلّقها، بدورها، في عنق المشنقة وخليه يرن..