كانت أجندة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مزدحمة ذلك الصباح الربيعي الدافئ في باريس، وكان بوسعه، بكل بساطة، أن ينيب وزيرة الثقافة لحضور حفل استقبال المغرب كضيف شرف (Invité d’honneur) في واحد من أبرز التظاهرات الثقافية في فرنسا وأوروبا : مهرجان الكتاب بباريس، “نعم المهرجان الذي احتضنه القصر الكبير بالعاصمة باريس”.
لكنه حضر. ألقى كلمة. صافح. التقط صورا. ودردش مع المغاربة بتلقائية وتواضع… تواضع غير معهود لدى كثير من الفرنسيين، سيما في مَنْ يسكن الإليزيه!
فلماذا أفسح ماكرون إذا مكانا في أجندته الحديدية لحضور حدث ثقافي طرفاه المغرب وفرنسا؟ هل هي محبة مفاجئة للآداب المغاربية؟ أم أن في الأمر ما هو أعمق من توقيع الكتب وشرب الشاي بالنعناع؟
الاهتمام بالفنون والثقافة ليس “Caprice passager” أو “نزوة عابرة” في تقاليد الجمهورية الخامسة. إنه إرث ممتد من أيام ملوك آل بوربون إلى عهد الجنرال شارل دوغول، الذي جعل من المثقف أندريه مالرو وزيرا للثقافة، لا ليكتب له الخطابات، بل ليجلس إلى جانبه في كل جلسة من جلسات المجلس الوزاري، وكأن الثقافة حارسٌ لجمهورية السلاح والنشيد الوطني.
ولما سُئل دوغول عن هذا القرب اللافت بين الجنرال والمثقف، أجاب:
“مالرو أعطى للثقافة بعدا سياديا كما أعطينا نحن للسياسة بعدا سياديا، ثم إنه يصدر في آرائه عن ضمير فرنسا، لا عن ألاعيب سياسييها.”
(يمكن مراجعة كتاب مالرو “Les Voix du Silence” أو مذكرات دوغول للتوسع).
هذه الخلفية تفسر لماذا يحرص ماكرون على جعل الثقافة جزءا من “Soft power” أو القوة الناعمة الفرنسية، التي لا تضيء فقط بأنوار برج إيفل أو “فترينات” الشانزليزيه، بل بأنوار فلسفية من فولتير وروسو، وفنية من ديبوسي وبيكاسو، وسينمائية من تروفو وغودار.
الحضور الشخصي للرئيس الفرنسي في حفل استقبال المغرب لم يكن صدفة عابرة ولا مجاملة بروتوكولية. الرسالة الدبلوماسية واضحة: باريس تسعى لإعادة الدفء إلى علاقة بردت أكثر من اللازم مع الرباط.
ويبدو أن إشارات الإليزيه الأخيرة بشأن الاعتراف بمغربية الصحراء، أو على الأقل تبني مبادرة الحكم الذاتي كمخرج واقعي وحيد، ليست إلا مقدمة لمصالحة دافئة. الحكم الذاتي هو المبتدأ والخبر في حل نزاع يُكمل هذا العام نصف قرن من الزمن!
وفي هذا السياق، يبرز مهرجان الكتاب كمنصة رمزية بامتياز: الثقافة، مرة أخرى، تقوم بما لا تقدر عليه السياسة في وضح النهار.
في هذا الحدث، كما غطاه موقع “سفيركم” بالصوت والصورة والكلمة، بدا ماكرون تلقائيا “spontané” إلى أقصى حد.

يلتقط صورا مع الصحافيين كما لو كانوا أصدقاء قدامى، يبتسم، يصافح…ويكسر برودة البروتوكول الفرنسي الذي غالبا ما يضع حواجز بين الرئيس والناس، من أمن ووقت وحسابات.
لكن احترام الصحافة – حتى في لحظات الخلاف – هو تقليد أصيل من تقاليد الجمهورية، وربما أيضا درس مجاني لمن يعتقدون أن السلطة تمارس بالحدة والرهبة، لا بالكلمة، والابتسامة والمصافحة و”السيلفي”.
في السياسة كما في الأدب، “المعنى في قلب الشاعر”. لكن ماكرون ليس شاعرا، بل رئيس يجيد إرسال الرسائل غير المباشرة.
وأيّ رسالة أقوى من حضور شخصي لرئيس فرنسا في تظاهرة ثقافية مغربية-فرنسية، في لحظة استعادة دفء العلاقات ؟
إنها رسالة تقول: نحن هنا… ونريدكم أن تكونوا كذلك.
أما إن فهم البعض من كلامي هذا “ميساجا” مبطن لما يجري ويدور في المغرب، فذلك ليس اتهاما… بل إقرار واعتراف بذكاء الصورة وقوة الكلمة، وقد عاينته بنفسي وأنا أغطي الحدث كما عاينت أشياء.
وإلى إشعار آخر…
تبقى رسائل المعرض مفتوحة … والمعاني موجودة بين صفحات كتبه.
