بقلم: ابتسام مشكور
في ملفات العدالة، التفاصيل لا تموت… أحيانا تعود على هيئة تسجيل سري، محمل بما يكفي لقلب كل الموازين.
سعد لمجرد، النجم المغربي الذي وجد نفسه داخل أروقة العدالة الفرنسية بتهمة اغتصاب، عاد اسمه بقوة إلى الواجهة بعد جلسة مثيرة أول أمس.
المفاجأة؟ تسجيل سري سجله مدير أعماله لوالدة الضحية المفترضة، بتنسيق دقيق مع محاميته، بعد لقاء تم التخطيط له مسبقا… وسُلّم التسجيل رسميا إلى المحكمة.
التفاصيل صادمة: الطلب كان واضحا 3 ملايين أورو، ما يعادل 3 مليارات سنتيم مغربي، مقابل أن تؤكد ابنتها رواية لمجرد.
“إذا حصلت ابنتي على المبلغ، ستتراجع عن أقوالها وتؤكد حقيقة ما قاله سعد”، تقول الأم في التسجيل، حسب ما تسرب.
المحكمة، أمام هذه القنبلة الصوتية، لم تنتظر طويلا: قررت تأجيل البت في القضية، وفتحت تحقيقا رسميا في محتوى التسجيل ومصداقيته.
الرواية التي كانت معروضة للبيع ليست غريبة على المحكمة. فقد سبق أن رواها لمجرد بنفسه:
“دخلنا الغرفة في الفندق، تبادلنا القبل. ثم أوقفتني وسألتني كم سأعطيها. أخرجت ما كان معي حينها – 160 أورو فقط – فمددت يدي لأسلمها المبلغ، لكنها صفعَتها بازدراء. فرددت بضربة، ثم اعتذرت لها في قلب المحكمة.”
لكن اللحظة الفارقة لم تكن هناك، داخل الغرفة، بل هنا في التسجيل الذي قدم لمحكمة كريتاي.. لحظة واحدة، كشفت هشاشة السرديات، وأعادت السؤال القديم إلى الواجهة:
هل كنا أمام قضية عدالة… أم أمام صفقة مدبرة؟
في الحقيقة لم يعد يهم فقط: “ماذا حدث؟” بل: كم كانت تساوي الحقيقة؟
لا يرتكب كل اغتصاب على جسد فقط. بعض الاغتصابات أعمق وأشد ألما، لأنها تمارس على الأرواح وعلى القيم وعلى مفاهيم العدالة والإنصاف.
نحن في زمن صار فيه “الترند” أقوى من محاضر الشرطة القضائية، وصوت الفايسبوك أعلى من صوت القاضي، والدموع حتى وإن كانت تذرف من عيون تمساح أقوى من الأدلة والحجج.
في زمن تحولت فيه الكاميرا إلى هيئة حكم، و”السوشيال ميديا” إلى محكمة شعبية، والاتهام إلى عرض مباشر يُبث على الهواء مباشرة ويُقاس بعدد اللايكات، لا بنصوص القانون وحججه.
فأي زمن هذا الذي تُنصب فيه المشانق قبل أن تنعقد المحاكم؟
قضايا الاغتصاب لم تعد جرائم يُحقق فيها القضاء الجالس منه والواقف، بل تحولت إلى مسرحيات سوريالية، بطلاتها يصرخن على المنصات، وأبطالها يُحاكمون في هاشتاغ.
المرأة التي ترفع صوتها قد تكون ضحية بالفعل، وقد تكون أداة في حبكة أكبر منها. والرجل المتهم قد يكون جانيا يجب أن يُحاسب، أو اسما عالقا في لعبة شهرة وتصفية حسابات بدم بارد.
وفي هذا المناخ المشوش، يصبح الاغتصاب — وهو من أفظع الجرائم — أحيانا وسيلة ضغط، أو أداة مساومة، أو مجرد صفقة مؤقتة تُبرم باسم العدالة، وتُغلف بادعاءات الألم.
وبين هذا وذاك، تضيع العدالة، ويُغتصب الحق والقانون.
لا حاجة لنا لأن نفتش كثيرا في كتب الشرائع…
يكفي أن نفتح سجل التاريخ:
في عام 2006، اتهمت امرأة تُدعى كريستال مانغوم، وكانت تعمل راقصة، ثلاثة طلاب من فريق لاكروس في جامعة ديوك الأمريكية، بأنهم اغتصبوها خلال حفلة. انتشرت القصة بسرعة في وسائل الإعلام، التي غذت القضية بسرديات عن التمييز العرقي والامتياز الطبقي. خلال أيام، انهارت حياة الطلاب الثلاثة، ريد سيليغمان، كولين فينيرتي، وديفيد إيفانز. تم طردهم من الجامعة، وتعرضوا لحملات تشويه وتهديدات، وتحولت حياتهم إلى كابوس علني.
لكن في عام 2007، أعلن النائب العام في ولاية كارولاينا الشمالية براءتهم التامة، مؤكدا أن كل الأدلة كانت تثبت أنهم أبرياء، وأن القصة مختلقة بالكامل. أما المدعي العام الذي دفع بالقضية دون أدلة، مايك نيفونغ، فقد جُرد من رخصته القانونية.
كريستال مانغوم، التي لم تُحاسب قانونيا على كذبها، اعترفت لاحقا في 2024 بأنها اختلقت القصة بالكامل، وقالت إنها كانت “تبحث عن اهتمام الناس، بدلا من أن تبحث عن الله”! يا الله على صحوة ضمير كريستال بعد فوات الأوان..!
قضية سعد لمجرد، التي تجاوز عمرها تسع سنوات، لم تعد مجرد ملف قضائي عادي، بل تحولت إلى حقل ألغام مفتوح، تداخلت فيه الروايات، وتشابك القانون مع الإعلام، والعدالة مع الاستعراض. قضية بدأت بشكوى، وتطورت إلى معركة رأي عام، ثم إلى سلسلة من الجلسات، والطعون، والتسريبات، والاصطفافات.
هنا، لم نعد أمام سؤال: “هل وقع الاغتصاب؟”
بل أمام سؤال أكثر فظاعة: “من يكتب الحقيقة؟ ومن يملك حق بيعها؟ وكم الثمن؟”
القضاء الفرنسي، الذي لطالما كان مضرب مثل في الاستقلالية والنزاهة، لا يمكن إنكار ما راكمه من تجربة صلبة في مواجهة الضغوط وحماية ميزان العدالة. بل إن تعامله مع قضية سعد لمجرد نفسها، وكل هذه السنوات من التحقيقات المتأنية، والمتابعة في حالة سراح، تعكس صبرا قانونيا يُحسب له لا عليه. لم يحكم تحت الضغط، ولم يتسرع، بل أصر أن يأخذ مساره، خطوة بخطوة.
لكن هذا الملف المتشابك، الذي اختلط فيه الحق بالتمثيل، والشهرة بالتحريض، والمرافعة بالعاطفة، يضع هذا القضاء اليوم أمام امتحان جديد.
هذا هو التحدي الحقيقي:
ليس فقط أن يصدر الحكم، بل أن يُقنعنا أن ثقل البينة في ميزان العدالة الفرنسية أثقل من كل الضغوط. اليوم، التحدي ليس قانونيا فقط، بل أخلاقيا أيضا، أن يثبت القضاء أن العدالة لا تحرّكها الكاميرات، ولا تربكها الصيحات، ولا تشترى بالملايين، ولا تخضع للهواتف، ولا تهتز أمام العاطفة حين تواجه الوقائع.
أن يصدر حكما لا يرضي الناس، بل يرضي ضميرا يخشى عدالة السماء.
“وهنا، وحدها المحاكم الحقيقية تفصل بين الدول التي تمتلك قضاء فعليا، وتلك التي تكتفي بديكور قانوني يُجيد فن العلاقات العامة.”
سننتظر الحقيقة من محكمة كريتاي. فإما أن يُدان سعد لمجرد، فيسقط قناعه وهو من الكاذبين، أو يُبرأ، فتنحر العدالة على مرأى الجميع، وتُسلب كل امرأة مظلومة حق التصديق، ويُرمى صراخها بالريبة: هل هي لورا أخرى؟
فلننتظر حكم قضاء جمهورية الحرية والمساواة والإخاء… وليتعلم معسكر الشامتين والمتعاطفين أن الأحكام تُولد في المحاكم، لا وسط ضجيج الذباب الإلكتروني المعلب بالغباء والاستغباء!
فالتاريخ لا يصفق… فقط يحصي الفظائع التي ارتُكبت باسم العدالة، سواء صدرت عن قاض ظلم، أو عن “ضحية” اختلقت الألم. ومن يعش، يحكي.