قصة اليوم، ليست كباقي القصص، فبطلتها سيدة أعطت كل الحب للفن فسارت في دروبه وهي تحمل روحا مفعمة بالحياة، محبة الموسيقى متيقنة بأن القدر سيجود عليها يوما ما بما هو أجمل، فما كان منه إلا أن يجازي حبها الصادق ويقينها القوي بعطايا أكبر، فلم تكن تعلم تلك الطفلة الصغيرة التي شاركت في برنامج “مواهب” أن المقادير الإلهية ستحملها من مجرد متسابقة في البرنامج إلى الغناء أمام الراحل الحسن الثاني، ومنه إلى الشهرة العالمية، لتخط اسمها في مجلد التاريخ بين فطاحلة الأغنية العربية، ويكون بذلك اسم “سميرة سعيد” رمزا لعظمة امرأة استمدت صفاتها من مملكة لم يُسمع عنها إلا ما هو عظيم.
هي فنانة مخضرمة، تمتلك صوتا رخيما يلامس الروح، ويعكس عمقا مغربيا بلمسة شرقية، يعرفه من عاصر أغانيها الكلاسيكية في الجيل الذهبي وحتى من تزامن مع أغانيها الشبابية، ولأن روحها دائما ما احتفظت بتفاصيل طفولية، كانت سميرة دائما تحب تجربة كل ما هو جديد، فمن الغناء والطرب اختارت التمثيل، ومن الكلاسيكي اختارت أن تلج عالم البوب والأغنية الشبابية، فبصمت على مسار مميز في كل درب سارت فيه.
طفولة وسط الموسيقى والغناء
من عاصمة الأنوار تخلقت سميرة سعيد، أو سميرة عبد الرزاق بنسعيد، التي أطلقت أولى صرخاتها يوم 10 يناير 1958، لتجد نفسها في حضن عائلة متفتحة، تحب الفن وتقدره، وتشجعها على الدراسة، حيث كانت قد تلقت تعليمها الأولي في المدرسة الابتدائية بحي اليوسفية بالرباط، التي قضت فيها لحظات من الطفولة والشباب، وقبل أن تجرها تيارات الفن كانت تجمعها بوالدها علاقة مميزة استمدت منها الإصرار وحب المغامرة.
وبما أن الأطفال يتطبعون بطباع آبائهم، فقد ورثت سميرة الغناء من والدتها التي كانت تتمتع بصوت جميل، وتعلمت الموسيقى وتقنياتها من والدها الذي كان محبا للموسيقى، ومعه تعرفت على رواد الأغنية الكلاسيكية سواء العربية أو المغربية.
بدايات سميرة سعيد
كانت مشاركتها الأولى في برنامج المواهب مع الملحن عبد النبي الجيراري، في سنة 1968، خطوتها الأولى في مسار الألف ميل، مشاركة مهدت لطريق طويل حافل بالإنجازات، بدءا من دخولها القصر الملكي المغربي، الذي كانت تغني فيه وهي طفلة أغاني أم كلثوم التي لم يكن يقوى عليها حتى الكبار، ما جعل الصحافة المغربية آنذاك تطلق عليها لقب “أم كلثوم المغرب”، وهناك تعرفت على كبار نجوم الطرب العربي الذين مهدوا لها الطريق لتطأ بلاد مصر في تجربة جديدة ستفتح أمامها باب الشهرة على مصراعيه.
وفي بداياتها كانت “أم كلثوم المغرب” وفية للهجة المغربية إذ أصدرت أغنيات عريقة ما تزال في الذاكرة المغربية وموروثها الغنائي، ويتعلق الأمر بـ”إلهي”، و”شكونا لأحبابنا” و”كيفاش تلاقينا” و”قل للمليحة” مع عبد النبي الجيراري، بالإضافة إلى”رمضان أقبل” رفقة عبد الحميد بنبراهيم، و”لحن الذكريات” رفقة عبد الله عصامي، و”أنا مغلوبة” و”ياقلبي ارتاح” مع حسن القدميري، لتقدم فيما بعد أعمال أخرى، مثل: “فايت لي شفتك” و”أنا والمحال” و”آش بيني وبينو”.
وكانت مصممة في تلك الفترة على أن تشد الرحال إلى مصر، وكأنها تعلم أن في هذا البلد ستتحول كل أحلامها لحقيقة، فسجلت هناك، في سنة 1977، بمساعدة المطربة فايزة أحمد، ألبوم “الحب اللي أنا عيشاه”، والذي ضم أغنيتين “الدنيا كدة” و “وبحب”. وأصدرت بعد ذلك في سنة 1978 ألبوم “بقى ده اسمه كلام”، “ويا دمعتي هدي”، ثم “ايش جاب لجاب” و”احكي يا شهرزاد” في عام 1984.
وبما أن مسارها يطبعه زخم فني كبير تصعب معه الإشارة إلى جميع أعمالها، إلا أن الشهرة التي حظيت بها سميرة سعيد، يمكن تلخيصها في أغاني، من قبيل: “جاني بعد يومين” و”احكي يا شهرزاد” و”مش حتنازل عنك أبدا”، التي ما تزال تتردد على أسماع الناس من عشاق الأغنية العربية، والتي تجعل هذه الفنانة امتدادا طويلا للزمن الذهبي في الحاضر، وتوليفة فذة بين الأصالة والمعاصرة الفنية.
ولم تكتف سميرة بذلك فقط، بل تألقت حتى في الأغنية الخليجية، حيث كانت أول فنانة تقوم بإصدار ألبوم كامل باللهجة الخليجية، من خلال تعاونها مع فنانين كبار، من طينة عبادي الجوهر وطلال مداح.
موهبة فذة في التمثيل
لم يكن الغناء محطتها الوحيدة، بل خاضت تجربة التمثيل كذلك، التي على الرغم من أنها لم تستمر، إلا أنها عرت عن مواهب خامدة للفنانة المغربية، والتي لم تكشف عنها إلا حين شاركت للمرة الأولى في “مجالس الفن والأدب” الذي أنتج عام 1968، وفيلم “سأكتب اسمك على الرمال” في سنة 1978، من إخراج عبد الله المصابحي، حيث جسدت دور سعدية في هذا العمل الذي يتحدث عن المقاومة المغربية ضد الاحتلال الفرنسي في السنوات السابقة للاستقلال.
حكمة في مواجهة المضايقات
ومسار “الديفا” لم يكن مليئا بالورود فقط، فكثيرا ما كان محفوفا بالأشواك، والاتهامات التي كانت تواجهها سميرة بكل حكمة ورجاحة في الرأي، ففي الكثير من الأحيان كانت تلتزم الصمت حين تشن ضدها حملات إعلامية، لاسيما بعد الثورة المصرية، وما كان يلفق إليها بخصوص علاقاتها مع رموز النظام السابق أو النبش في حياتها الشخصية. ما دفعها إلى التفكير في العودة إلى المغرب.
الفنان من يغير جلده باستمرار
وبما أنها عاصرت جيل الاسطوانات ومنه إلى الكاسيت ثم السي-دي وإلى منصات الاستماع الرقمية، فقد اكتسبت سميرة سعيد قدرة كبيرة على التكيف مع أساليب الإنتاج الجديدة والتقنيات الموسيقية التي دائما ما تتجدد.
ولأنها تؤمن بأن الفنان الحقيقي هو من يغير جلده باستمرار، فهي لا تنكر حقيقة أن المغني يجب أن يواكب تطورات عصره وكل جديد تأتي به الرقمنة، ليس لشيء سوى لتلبية ذوق الأجيال الجديدة وتقديم ما يحب أن يسمعه الجمهور.
وفي حوار سابق لها، قالت سميرة: “أنا مطربة موسيقى بوب، وفنان البوب من الضروري أن يجدد باستمرار في الأفكار والأشكال الموسيقية التي يقدمها، وحتى الكلمات التي يتغنى بها، فلكل جيل خصوصيته وقاموسه ومفرداته، التي تتغير من حين لآخر، وفي حال الاستمرار على نفس النهج، سيكون الفشل هو المصير بكل تأكيد”.
أغاني بلمسة شبابية
والمستمع الأغاني “الديفا” الجديدة لا يمكن إلا أن يلاحظ اللمسة الشبابية الطاغية وحضور المرأة القوية في أغلب تيمات أغنياتها، ففي أغنية “كان” التي طرحتها قبل 4 أشهر، والتي تعاونت فيها مع الكاتب مصطفى ناصر، والملحن عمرو مصطفى ثم الموزع ماهر الملاخ، تعبر عن الحب للماضي والذكريات المحملة بالمشاعر والأحاسيس، والتي أتبعتها بأغنية “فن التغافل” التي تعد ثاني تعاون مع الملحن عمرو مصطفى في 2024، والتي تجاوزت نسب مشاهداتها 861 ألف مشاهدة، لتطرح يوم أمس أغنية “كداب” التي تجاوزت في أقل من يوم بعد إصدارها 222 ألف مشاهدة.