بقلم: حسن اليوسفي المغاري
في زمن تتسارع فيه وتيرة التفاهة والتشهير، وتتشابك خيوط المصالح والصراعات، يجد الخطاب الإعلامي نفسه أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يرتقي إلى مستوى المسؤولية التاريخية كسلطة رابعة تحرس الديمقراطية وتحمي المجال العام، أو أن ينحدر إلى مستنقع التصفيات الشخصية والتشهير المنظم.
ولعل المقال الذي نُشر مؤخرا كردّ على محمد أوزين، بعد “مرافعته” البرلمانية حول واقع الصحافة في المغرب، يمثل نموذجا صارخا لهذا الانحراف، ويطرح أسئلة مؤرقة حول مستقبل الصحافة المغربية وقدرتها على التمييز بين النقد السياسي المشروع والانتقام الشخصي المقنع.
المقال ذاك، ليس مجرد حالة معزولة، بل هو عَرَض لمرض مزمن يهدد مصداقية المهنة برمتها ويُحوّل الفضاء العام إلى حلبة صراع بلا قواعد ولا أخلاق.
◇اللغة كأداة للتدمير لا البناء..
يبدأ المقال بلقب تحقيري “مول الكراطة”، وهي إشارة واضحة إلى نية الكاتب منذ السطر الأول: ليس النقد هو الهدف، بل الإهانة. اللغة المستخدمة طوال النص تفيض بالألفاظ الدونية: “المسكين”، “التافه”، “النكرة”، “البرهوش السياسي”، “مستنقع نتن”. هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي خيارات واعية تكشف عن عقلية ترى في الخصم السياسي عدوّا يجب سحقه، لا طرفا في نقاش ديمقراطي يجب مواجهة أفكاره وسياساته.
المشكلة ليست في حق الصحافي بانتقاد السياسي، فهذا حق مكفول ومشروع، بل في الطريقة التي تُمارس بها هذا الحق.
التهديد كبديل عن الدليل، ومن أخطر ما يحتويه المقال هو الاعتماد الكلي على التهديدات بدلا من تقديم الأدلة. عبارات مثل “سيأتي اليوم القريب الذي سنضع صورته في المرآة”، “سنفضحك بها أمام المغاربة وستكون كلفتها غالية جدا”، “انتظرنا في القريب العاجل”، كلها تكشف عن منطق ابتزازي بعيد كل البعد عن المنطق الصحفي السليم.
الصحافة الحقيقية لا تؤجل الحقائق، لا تُلوّح بما تملكه من معلومات كورقة ضغط، بل تنشرها فورا إذا كانت مُوثّقة وذات مصلحة عامة. التلويح بالفضائح المستقبلية ليس إلا شكلا من أشكال الترهيب الذي يشبه أساليب الابتزاز أكثر مما يشبه العمل الصحفي. إذا كان الكاتب يملك أدلة على فساد أو انحراف، فواجبه المهني والأخلاقي يحتم عليه نشرها فورا لا تهديدا بها لاحقا.
◇ التلميحات الغامضة: أسلوب الاتهام دون إثبات
يمتلئ المقال بتلميحات غامضة تشبه الألغاز: “الدار اللي هناك”، “أراضي إفران السلالية”، “المستور، كل شيء بأوانه”، “نعرف على ظهر من جاء”. هذا الأسلوب يخدم هدفا واحدا: زرع الشك وتشويه السمعة دون تحمل مسؤولية الاتهام الصريح الذي يمكن تفنيده أو مقاضاة صاحبه.
التلميح أخطر من التصريح في كثير من الأحيان، لأنه يسمح بنشر الإشاعات وتدمير السمعات دون أن يترك للمستهدف فرصة الدفاع عن نفسه أو المطالبة بإثبات التهم. إنه اغتيال معنوي بطريقة جبانة، تختبئ خلف العموميات وتتهرب من المواجهة المباشرة.
■ المعايير المهنية المنتهَكة
◇انتهاك مبدأ الموضوعية..
الموضوعية ليست حيادا ميكانيكيا أو لا مبالاة، بل هي التزام بعرض الوقائع بأمانة والتمييز بين الرأي والخبر. المقال المذكور يسقط هذا المبدأ تماما، فهو يقدم أحكاما مطلقة (“بلا ماضٍ نضالي يُذكر”، “لا أثر له في معارك الديمقراطية”) دون أن يقدم أي دليل يدعمها أو حتى محاولة لفحصها بإنصاف.
المشكلة أن هذه الأحكام المطلقة تُلغي إمكانية النقاش، وتحوّل الحوار السياسي إلى صراع وجودي. حين تصف شخصا بأنه “لا شيء يتقنه”، فأنت لا تنتقد سياساته أو قراراته، بل تلغي وجوده كفاعل سياسي له الحق في المشاركة في المجال العام.
◇خرق مبدأ احترام الكرامة الإنسانية..
حتى في أشد حالات النقد السياسي، يظل احترام الكرامة الإنسانية خطا أحمر لا يجوز تجاوزه. الشخصيات العامة، رغم خضوعها لمستوى أعلى من التدقيق والنقد، تظل تحتفظ بحقها في أن تُعامل كبشر لهم كرامة. استخدام عبارات مثل “محاربة الميكروبات” أو “رمي الأزبال” ليس نقدا سياسيا، بل هو تجريد للخصم من إنسانيته، وهو أسلوب خطير يفتح الباب أمام كل أشكال التطرف اللفظي.
التاريخ علمنا أن اللغة التي تجرد الآخر من إنسانيته هي دائما مقدمة لممارسات أسوأ. حين نصف خصومنا بالحشرات أو القمامة، فإننا نمهد الطريق لثقافة الإقصاء والعنف، حتى لو كان عنفا رمزيا في البداية.
◇غياب التوازن والإنصاف..
المهنية الصحفية تقتضي، حتى في مقالات الرأي، أن تكون للطرف الآخر فرصة للرد أو على الأقل أن يُعرض موقفه بإنصاف. المقال لا يكتفي بعدم إعطاء هذه الفرصة، بل يصادر تماما أي إمكانية للحوار بلغته الحادة وأحكامه المسبقة.
النقد البناء يفترض وجود مساحة للتصحيح والتطوير، أما التشهير فيهدف فقط إلى الهدم. حين لا يترك النص أي ثغرة للحوار أو الرد، فهو يخرج من دائرة الصحافة إلى فضاء التصفية.
السياق الأوسع – أزمة بنيوية
◇ثقافة الإفلات من العقاب
جزء من المشكلة أن الخطاب الإعلامي العنيف لا يُحاسب عليه أصحابه إذا كانوا مدعومين من جهات معيّنة، وغياب آليات فعالة للتنظيم الذاتي المهني، وضعف (دور المجلس الوطني للصحافة)، وعدم وجود ثقافة نقد إعلامي جادة، كل ذلك يخلق بيئة من الإفلات يشعر فيها بعض “الصحافيون” أنهم قادرون على قول أي شيء دون عواقب.
هذه الثقافة تدمر المهنة من الداخل، لأنها تشجع السباق نحو القاع: من يستطيع أن يكون أكثر صخبا، أكثر عنفا في لغته، أكثر استفزازا… النتيجة هي تراجع مستوى النقاش العام وفقدان الصحافة لمصداقيتها.
◇المصداقية: الضحية الأكبر
حين يقرأ المواطن العادي مقالا مليئا بالإهانات والتهديدات، فإن ردة فعله الطبيعية هي الشك في دوافع الكاتب ومصداقية ما يقوله. حتى لو كانت هناك حقائق دامغة عن فساد الشخص المستهدف، فإن أسلوب العرض العنيف يجعل القارئ يشك في الرواية بأكملها ويعتبرها مجرد تصفية حسابات.
المفارقة أن الكاتب بأسلوبه هذا يخدم خصمه بشكل غير مباشر، لأنه يسهل عليه رواية “أنا ضحية حملة تشهير” بدلا من أن يضطر للرد على اتهامات قد تكون موضوعية وموَثّقة. التشهير يصنع الضحايا، والنقد الموضوعي يصنع المحاسبة.
المسؤوليات المتعددة
◇مسؤولية الصحفي
الصحفي ليس مجرد ناقل للمعلومات أو معبّر عن رأي شخصي، بل هو حارس بوابة المجال العام. كل كلمة يكتبها تساهم في تشكيل الوعي الجماعي وبناء الثقافة السياسية. المسؤولية هنا مضاعفة: تجاه الحقيقة أولا، وتجاه المجتمع ثانيا.
الصحفي الذي يختار طريق التشهير بدلا من النقد الموضوعي لا يخون مهنته فقط، بل يساهم في تسميم المجال العام وتدمير ثقافة الحوار. وحين يصبح التشهير نموذجا ناجحا (من حيث لفت الانتباه وكسب التأييد)، فإنه يشجع آخرين على تقليده، وتدور العجلة نحو الأسفل.
◇مسؤولية الجمهور
القارئ ليس متلقيا سلبيا، بل هو جزء من المعادلة.
الجمهور الواعي هو الذي يميز بين النقد البنّاء والتشهير الرخيص، وهو الذي يكافئ الصحافة الجادة بدعمه ومتابعته، ويعاقب الصحافة الصفراء بإهمالها ومقاطعتها.
◇مسؤولية المنظمات المهنية
نقابة الصحفيين، (المجلس الوطني للصحافة)، الهيئات المهنية المختلفة، كلها تتحمل مسؤولية في وضع معايير واضحة وفرض احترامها. ليس بالقمع أو المنع، بل بالتنظيم الذاتي، بالتكوين المستمر، بالمساءلة الأخلاقية، وبخلق ثقافة مهنية ترى في التشهير خيانة للمهنة وليس نجاحا صحفيا.
غياب هذه الآليات يخلق فراغا تملؤه الفوضى، وينتج عنه صحافة بلا بوصلة أخلاقية، تتأرجح بين الخوف المبالغ فيه والعنف اللفظي المفرط، دون أن تجد طريقها نحو الوسطية المهنية.
نحو ثقافة نقد صحية
◇التمييز بين النقد والعداء
المجتمع الديمقراطي الصحي هو الذي يستطيع أفراده أن ينتقدوا بعضهم بعضا بشدة دون أن يتحول النقد إلى عداء شخصي. هذا يتطلب ثقافة سياسية-إعلامية ناضجة تفهم أن الانتقاد أمر طبيعي، بل ضروري، وفي العمل الصحفي يكون البحث والتقصي والإدلاء بالوثائق وسرد المعطيات، مبادئ أساسية إلى جانب التحلي بالأخلاق وبالموضوعية.
على سبيل الختم..
المقال إيّاه ليس مجرد خطأ فردي أو انزلاقة عابرة، بل هو تعبير عن أزمة بنيوية عميقة تعيشها بعض الصحافة المغربية، أزمة تتجلى في الخلط بين حرية التعبير والفوضى اللفظية، بين النقد الشرعي والتصفية الشخصية، بين قوة الحجة وعنف اللغة، التشهير والقتل المعنوي…
الصحافة الحرة هي عصب الديمقراطية، لكن الحرية دون مسؤولية تتحول إلى فوضى، والنقد دون معايير يتحول إلى تخريب.
المعركة الحقيقية اليوم ليست فقط ضد من يريد كم الأفواه، بل أيضا ضد من يسيء استخدام الحرية لتدمير المجال العام. كلاهما يقود إلى النتيجة نفسها: موت الحوار البنّاء.
المستقبل يتطلب صحافة شجاعة لكن مسؤولة، ناقدة لكن منصفة، حرة لكن ملتزمة بالحقيقة والكرامة الإنسانية. هذا ليس طموحا مستحيلا، بل هو الحد الأدنى الذي تستحقه المجتمعات التي تطمح إلى بناء ديمقراطيات حقيقية.
القلم يمكن أن يكون سلاحا للتنوير أو للتدمير، والاختيار يبقى في يد من يمسكه. والسؤال الذي يجب أن نطرحه جميعا: أي صحافة نريد؟ وأي مجتمع نبني؟ وقبل هذا وذاك: هل هناك إرادة سياسية للتطور سياسيا وإعلاميا؟

