بقلم: ابتسام مشكور
يحدث في المشهد الرقمي اليوم، هذه “الغابة الإلكترونية” التي تتصارع فيها قوى الرصانة مع التفاهة، وتُطحن فيها القيم والمبادئ بين ضجيج الضحالة وصمت العقل والفكر، يشبه إلى حد ما الوضع قبل سقوط جدار “العار” في برلين. ذلك الجدار الذي منع التواصل، وزرع الانقسام، وغذّى القمع الاجتماعي والفكري، وحرم الناس هناك من هواء الحرية وطعم الديمقراطية، الذي لم يتنفسوه إلا بعد سقوطه. هكذا يفعل بنا “السور الرقمي” اليوم؛ يحجب عنا الحقيقة، ويفصلنا عن الواقع، ويزرع الانقسام والعنف واليأس. وما هذه إلا حصيلة أولية فقط، لم تُحص فيها بعد كل الخسائر!
في المغرب، لم يسلم لا العباد و لا البلاد من “سور رقمي” شيد في غفلة من المجتمع والدولة، رعته أياد خفية، ثم كبر واستفحل و”خلع الجميع”. لماذا؟ لأن ظاهره “المغري” يبدو انفتاحا، وتقدما تكنولوجيا، وحرية تعبير، أما باطنه “المزيف” فليس سوى بؤس وانسلاخ عن “تمغربيت”، بل مسخ للهوية. على رأي الصحفي المصري أحمد بهاء الدين “الانفتاح ليس سداح مداح”. وهذا ما يفسر تحركات الدولة لتطهير البيئة الرقمية، وإعادة صياغة النقاشات المجتمعية وفق تحديات المستقبل، فالنظام لا يساوم على مشروعيته، وضبط المشهد يظل من ثوابته، ومن خبر حكمته يدرك أن الاعتباطية لا مكان لها في هذه الرقعة.
روح تمغربيت اليوم على المحك، والصحوة الملحمية التي قادها المجتمع ضد تغول الفضاء الرقمي تبشر بالخير. ما يحققه المحتوى الرصين من أرقام لافتة هو في جوهره استفتاء شعبي على وعي المغاربة ويقظتهم، ويؤكد أنهم ‘فاهمين’ ومدركون لضرورة مواجهة هذا الانفلات. ومن يتأمل المشهد بعمق، يدرك ما يمكن وصفه بـ’الوعي الشقي’، كما عبّر عنه الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل، حينما واجه الألمان نكستهم بالتساؤل الشهير: ‘كيف تقدم الآخرون بينما تراجعنا نحن؟’ والنتيجة، أنهم عرفوا أخطاءهم، واستجمعوا قواهم، وها هم اليوم في صدارة الأمم.
إنها لحظة فارقة بين الركود والانطلاق نحو التغيير. لقد أبدى المجتمع وعيه، وهذا رائع، والتقطته الدولة، وهذا أروع. انطلق ورش التنقية، وعاد إلى الواجهة نقاش القوانين المتعلقة بحماية البيانات الشخصية وغيرها من التشريعات التي تصون كرامة الفرد المغربي، ذاك الذي صرخ “اللهم إن هذا منكر” في وجه زحف التفاهة الرقمية. ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر في ملعب الإعلام الرقمي، فهو الجهة الأقدر على التصدي لهذا الزحف، وتنبيه المجتمع وتوجيهه نحو بر الأمان في لحظات اشتداد العواصف، عوض”طريحات المعاطية” بين أبناء المهنة والملة الواحدة.
هناك جهود تبذل لإدارة سمعة المغرب رقميا، وواقع الإعلام الوطني يعد اختبارا حقيقيا للمشروع المغربي. لا مجال اليوم للتأرجح بين مطرقة الضمير المهني، الذي يفرض الالتزام بصوت الحقيقة، وسندان الرقابة الذاتية والخوف من العواقب المحتملة إذا ما تم “تجاوز الخطوط الحمراء”. ومن يراهن على هذا الأخير فليعلم أن تكلفته تدفع مرتين: الأولى بفقدان ثقة الجمهور، والثانية بتراجع جودة الرسالة الإعلامية، وهو الخطر الكبير على سياسة أي دولة. إذ إن الإعلام الذي لا يقوم بدوره الجوهري في إضاءة الواقع، يفسح المجال للظلام، والظلام يقتل. كما قال الصحفي الأمريكي الشهير بوب وودوارد: “تموت الديمقراطيات في الظلام”، فما بالك إذا كان النظام هجينا!.