حظي مشهد تسليم حركة حماس للأسيرات الإسرائيليات في غزة إلى الصليب الأحمر الدولي باهتمام واسع في الإعلام الدولي والإسرائيلي. فبينما كان المشهد في القطاع المدمر حماسيا ومنظما، بل ومبهرا للبعض وصادما للبعض الآخر، كان هناك مشهد آخر مظلم في الجهة المقابلة، يتعلق باستعدادات السلطات الإسرائيلية للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين المحكومين بالمؤبدات والعقوبات الثقيلة.
ووفق العديد من المراقبين، فإن بين المشهدين فروق كبيرة وشاسعة، تحكي عن واقعين مختلفين تماما، فبينما ظهرت الأسيرات الإسرائيليات في ثوب عسكري إسرائيلي أنيق، وفي صحة جيدة وابتسامة عريضة وشعر مرتب، يلوحن بأيديهن للمتجمهرين حولهن، فإن الجانب الآخر كان المشهد يعرض تكدس الأسرى الفلسطينيين في حافلات معتمة، حتى لا تنفلت شارة نصر يرفعها أسير قضى عمره كاملا في زنازين عوفر وعسقلان، وبين الانفرادي والجماعي، يحاول التقاط نفس حرية كلفه عمرا كاملا.
قبل هذا المشهد في وسط غزة، كانت أسيرة أخرى اسرائيلية محررة كشفت عن تعامل إنساني فائق من طرف عناصر حماس، وقالت ” لن أصمت” العبارة التي كسرت بها كل البروباغندا الإسرائيلية حول مأساوية ظروف الأسرى لدى حماس، حيث عبرت عن إعجابها بطريقة استماتة عناصر حماس في الدفاع عنهن وعن حياتهن، ولو حتى بأجسادهم كما كشفت عن ذلك في نفس التصريح، وكيف كانت تتقاسم معهم الطبخ وأعمال النظافة وغير ذلك من ممارسات تظهر رقيا وقيما عالية من الأخلاق في معاملة أسرى العدو أو أسرى الحرب.
ويرى كثير من المتتبعين أن مشهد الأسيرات الثلاث في وسط غزة، أسقط كل دعايات الاحتلال الإسرائيلي، وكشف عن الوجه الآخر الحقيقي لظروف أسرهن، أقل ما قيل عنها أنها انسانية وتظهر جانبا عاليا من القيم والأخلاق في التعامل مع الأسرى، على خلاف صور أسرى حماس والفلسطينيين لذى اسرائيل.
المقاومة تحترم الإنسان حتى في ظروف الحرب
في هذا السياق يرى الدكتور حمدي محمود، مدير المركز الديمقراطي العربي في القاهرة، “أن الفروق بين المشهدين ليست فقط انعكاساً لظروف الصراع، بل هي تعبير عن توجهات سياسية وأخلاقية متناقضة، فبينما تسعى حماس لإبراز قيم المقاومة الفلسطينية كحركة تحترم الإنسان حتى في ظروف الحرب، يعمل الاحتلال الإسرائيلي على تعزيز صورة القوة القمعية التي لا ترى في الأسرى الفلسطينيين سوى أرقام يتم استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية أو للترويع”.
وشدد محمود “أن المشهد الذي أبرزته حماس للأسيرات الإسرائيليات أسقط الكثير من الروايات الإسرائيلية التي طالما حاولت شيطنة المقاومة الفلسطينية وتصويرها كقوة عدائية وغير إنسانية. في المقابل، أظهر تعامل إسرائيل مع الأسرى الفلسطينيين وجهاً آخر من أوجه الاحتلال الذي لا يلتزم حتى بالحد الأدنى من القيم الإنسانية والقوانين الدولية”.
وأضاف المحلل السياسي في تصريح خص به “سفيركم” أن “حركة حماس والمقاومة الفلسطينية نقلت صورة غير مسبوقة عن تعامل المقاومة مع أسيرات العدو”، و ظهر ذلك في تنظيم عملية التسليم بشكل يبعث برسائل عدة، من أبرزها أن المقاومة، رغم كل ما عاناه قطاع غزة من دمار وقتل، ما زالت تمتلك القدرة على التعامل الإنساني مع الأسرى، بمن فيهم أولئك المنتمون للجيش الإسرائيلي، لافتا إلى شهادات الأسيرات أنفسهن والتي عززت هذه الصورة، حيث تحدثن عن معاملة تحترم الكرامة الإنسانية، حتى في ظروف الأسر والعداوة.
وختم المتحدث بالقول إن هذه المقارنة بين معاملة الطرفين للأسرى تسلط الضوء على حقيقة واضحة: المقاومة الفلسطينية، ورغم كل التحديات والمعاناة، ما زالت تمتلك زمام المبادرة الأخلاقية، بينما يواصل الاحتلال الإسرائيلي الانحدار نحو سياسات تتناقض مع أبسط القيم الإنسانية، هذا التباين يضع العالم أمام مسؤولية مراجعة الانحياز السائد ودعم حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال واستعادة كرامتهم الوطنية.
صور الأسيرات وكأنهن خارجات من فندق خمس نجوم
رشيد لبكر أستاذ القانون العام والعلوم السياسية في جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، يرى أن “صورة الأسيرات ووضعهن الجيد وسط الحشود في قطاع غزة، يوحي بأن الأسيرات الإسرائيليات خارجات من فندق من خمس نجوم، ويشير كذلك إلى أن هناك مناطق في قطاع غزة لم تصلها الحرب الإسرائيلية، ولم يستطع الجيش الإسرائيلي الوصول إليها أو كشفها وتدميرها، مشيرا إلى “أن الأمر يصعب التكهن بالقدرات التي تحتفظ بها حماس ولا من أين تستمد قوتها، وهذه نقطة إضافية أرعبت إسرائيل و أربكت تقديراتها، وأكيد ستحسب لها ألف حساب مرة أخرى قبل الدخول في حرب مواجهة مفتوحة مع حماس، وهذا شيء يبدو لي أنها مقتنعة به وحتى أمريكا ودعك من الدعايات”.
وأضاف لبكر في تصريح لـ”سفيركم”، أن “هذه الصور تعكس من جهة أخرى العقيدة الأخلاقية التي يرتكز كلا الطرفين، أن المبادئ واحدة والاخلاق لا تتجزأ، فالجيش الاسرائيلي دخل لهذه الحرب كما يدخل اللصوص لنهب قرية معينة وبالتالي إذا كان فعل السرقة في حد ذاته عمل مشينا ووضيعا فلا تنتظر من اللص أن يمارس لصوصيته بأخلاق”.
وأضاف، “في المقابل الذي يدافع عن أرضه من قناعة مبدئية رفيعة مؤسسة على قيم ومثل وحقوق يدافع عنها فمن الطبيعي جدا أن تنعكس هذه المثل على سلوكياته، معتبرا أن هذه المقاربة هي التي تفسر بشكل مختصر الطريقة الراقية لتعامل حماس مع أسيراتها، في مقابل الوضاعة التي تعامل بها إسرائيل أسرى الفلسطينيين، فكل واحد يعمل بأصله”.
وختم استاذ القانون العام بالقول “أن هناك رسائل أخرى من حماس للشعب اليهودي من هذه المعاملة، وهي أن حماس ليس هي ما يروج له الاعلام الإسرائيلي، حماس حركة مقاومة عادلة وليست تنظيما ارهابيا، بل تدافع عن حق شعبها في الأرض وفي الوجود وليس غايتها قتل الناس ولا التنكيل بهم كما تفعل اسرائيل”.
وأضاف المتحدث ذاته “من المؤكد أن حماس ستكتسب تعاطف العالم وحتى البعض من الشعب اليهودي وقد يؤدي بهم ذلك إلى توخي منهجية تفكير أخرى في التعامل مع الفلسطينيين ومع حماس بشكل خاص، ومما لا شك فيه أيضا أن هذه المعاملة تركت صداها في معنويات الجيش الاسرائيلي، فلأول مرة سمعت تصريحا لجندي من هذا الجيش، ينزل فيه تقريعا على نفسه ويقزمها ويحتقرها ويستشعر بالدونية أمامها على الطريقة التي خاضوا بها حربا اعتبرها غير أخلاقية ومنافية لكل القيم والمبادىء الإنسانية”.