بقلم: د. جمال بندحمان
عرف المغرب، منذ سنوات خلت، هجوما كاسحا لفتاوى دينية تأتي من خارج البلد مرتدية لباسا يختلف في خلفياته ومرجعيته عما يعد أمنا روحيا. وكان من نتائج هذا الهجوم تبني الكثيرين لأفكار التشدد والتطرف والانغلاق المطلق. وكي يتم إيقاف النزيف الفكري والسلوكي تم تقنين الفتوى، وجعلها مؤسسة قائمة الذات تلغي كل ما لايصدر عنها، ويتحمل متبني ملا يصدر عنها وزر ما ينتج عن ذلك من سلوكات أو مواقف.
بموازاة هذا الأمر، تطرح اليوم أمام الإعلام المغربي تحديات تكاد تكون مماثلة لما حصل في التسعينيات، وفي بداية الألفية الثانية. ففي ظل الفراغ الإعلامي الكبير الذي يعرفه المشهد الإعلامي المغربي بغياب البرامج التحليلية والثقافية التي ترفع منسوب الوعي بالقضايا وكيفية تناولها، يضطر الباحثون عن الجدية المفقودة إلى اللجوء الإعلامي الذي تقدمه لهم قنوات أجنبية أو مواقع إلكترونية مجهولة الهوية والانتماء.
هكذا يجد المواطن نفسه أمام سيل من التحليلات والمواقف التي تتناول قضايا تهم وجوده وانتماءه وكينونته. ورغم أن جزءا كبيرا من هذه القضايا لايرتبط بمعيشه المباشر، وانشغالاته الحياتية، فإن الإدمان على متابعتها يجعله مقتنعا بأن ما تقدمه حقائق لاترتفع، وفتاوى ينبغي اعتمادها في التفسير، وفي التبني.
عندما نتابع برامج قنواتنا الإعلامية الرسمية، فإننا نجد فقرا مدقعا في ما يهم المواطن، وفي ما يمكن أن يساعده على تكوين موقف تجاه ما يجري وطنيا وإقليميا ودوليا،إذ يتم الاكتفاء بتقديم الأخبار بالطريقة ذاتها التي هيمنت منذ سبعينيات القرن الماضي. وعندما تتم استضافة(محلل) فإنه يبدو مثل آلة تمت برمجتها لتكرر جملا معينة،وأحكاما جاهزة.أما البرامج الحوارية التي من شأنها تنمية الثقافة السياسية للمواطنين فإنها تكاد تنعدم،وحتى ما يعتمد منها فإنه يهمش ببرمجته في توقيت يكون فيه الناس قد خلدوا إلى نومهم العميق،وأحيانا تناقش فيه قضايا معينة بلغة خشبية و(فرملة) المواقف من قبل المدعوين الذين يتم انتقاؤهم بعناية فائقة.
إذا تركنا الإعلام الرسمي وبحثنا في محتويات الإعلام الاجتماعي الذي أسماه البعض، كذبا، الإعلام المواطن وجدنا أنفسنا أمام شتات معرفي، وتيه في التحليل، وتفاهة في المضمون. لكن إلى جانب هذه الميوعة التي تلوث الأذهان وتفسد المعارف نجد أنماطا أخرى من التحليل يخلق بها (المحللون) حالات اكتئاب نفسي ومجتمعي لمن يتابعها حيث يرتدي الإعلامي (المحلل) نظارات شديدة السواد، ويتبنى معجما قدحيا يسبق فيه الموقف التحليل، وتتلاشى أمامه الموضوعية المطلوبة.
هما آفتان متشابهتان تؤديان إلى فراغ معرفي وفساد تحليلي، وتدفع من يبحث عما يروي عطشه الإعلامي إلى اللجوء إلى ما يعتقد أنه يحقق الإشباع، ويبعد الكساد. لكن لجوءه، وإن فسر بعولمة الإعلام، فإن الاقتصار عليه يحعله مواطنا مغتربا عن قضاياه، وفاقدا للموقف النقدي المؤسس على الآليات والاستدلالات مع ما يصاحب ذلك من مخاطر سلوكية وموقفية. فهل يتطلب الأمر مأسسة أخرى تنقد ما بقي من حياء الإعلام؟.
تعليقات( 0 )