بقلم: عزيز رباح
هناك إجماع على أن الأمن الغذائي يمثل أولوية من أولويات الوطن وتم إقراره كهدف من أهداف المخطط الأخضر ثم الجيل الأخضر، إذ لا يمكن أن يبقى الوطن رهينة الأسواق العالمية والتوترات المحيطة والتجار الجشعين الذين فقدوا كل معاني الوطنية وأمعنوا في تجاهل التزاماتهم واستغلوا ظروف الجفاف وغياب نظام تقنين السوق وضعف المراقبة وأحيانا تواطؤ الإدارة مما خلق استياء كبيرا في الأوساط الشعبية بل حتى داخل دوائر الدولة.
وزاد من الاستياء عدم التزام الفلاحين الكبار بالخصوص الذين تلقوا الدعم بمئات الملايير من الدراهم وتمكينهم من عشرات ألاف الهكتارات منذ تفويت أراضي شركات الدولة التي تمت تصفيتها، صوديا وصوجيطا، إلى الآن حيث يستفيدون من أراضي الأملاك المخزنية والجماعات السلالية وأيضا الأوقاف. هذا بالإضافة الى الإعفاءات الضريبية التي تعد بملايير الدراهم سنويا والتعويضات عند الأزمات كالجفاف والفيضانات، زد على ذلك رزنامة من خدمات المواكبة والدعم وتمويل برامج التنمية الفلاحية من تطوير وإصلاح أنظمة وشبكات الري والطرق القروية ودعم الغاز واللائحة طويلة..
ويضاف الى هؤلاء التجار الجشعين والفلاحين الغير ملتزمين فئة كبيرة من أصحاب رخص الصيد البحري الذين مكنتهم الدولة من كل شروط الدعم للاغتناء ، من التصدير والتحويل باستغلال خيرات البحرين الأطلسي والمتوسط وحتى أحواض تربية الأسماك ، إلى دعم شراء وتجديد البواخر والتجهيزات.. دون أن ننسى استثمارات الدولة الكبيرة والمكلفة جدا في موانيء الصيد والمناطق الصناعية ذات الصلة.
إن كثيرين من هؤلاء من يأخذ من الدولة كل شيء ويطالب بالمزيد .. لكنه لا يقدم للدولة ولا للمجتمع أية إضافة نوعية حتى عندما يتلقون الدعم للاستيراد عند الخصاص مثل ما حصل في عيد الأضحى السنة الماضية! فلا تجد لهم اسهاما معتبرا في تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الطبقة الفلاحية المتوسطة في العالم القروي وتطوير الصناعة الغذائية وصناعة المعدات والاستثمار في التكوين المهني والفلاحي والبحري والبحث العلمي.
فلا شك أن الدولة بالحزم الذي تتحرك به الأن لمحاربة الغلاء ومحاسبة المتسببين فيه والذي استحسنه المواطنون ويتمنون أن يكون دائما وشاملا ورادعا.. مدعوة إلى مراجعة شروط التعاقدات ودفاتر التحملات مع كل المستفيدين من الأراضي والدعم والإعفاءات والامتيازات لإرغامهم على الالتزام كيفما كانت مكانتهم ومواقعهم وقد يصل الأمر الى استرجاع بعض من ذلك أو وضعهم في لائحة سوداء تمنعهم من أي امتياز أو دعم جديد حتى في القطاعات الأخرى.
لقد أبان مسار التحرير والخوصصة والإمتيازات والمأدونيات أن الإعتماد على نخبة اقتصادية وطنية وتمكينها من كل شروط التميز والمنافسة لعقود من الزمن لم يعط النتائج المرجوة حيث تنامى اتجاهان ضمنها : اتجاه يطغى عليه المنطق الربحي دون مراعاة التوازنات الإجتماعية، واتجاه لم يستطع أن يحقق قدرة تنافسية في السوقين الوطني والعالمي ويستمر في الاعتماد على مقدرات الدولة وتحفيزاتها وكلاهما يضمان فئات كثيرة تتملص من الالتزامات تجاه الدولة والمجتمع!!!
وسيكون من الأجدى أن تبادر الدولة إلى تأسيس شركة أو شركات عمومية للأمن الغذائي متخصصة في الفلاحة والصيد البحري وكل الأنشطة ذات الصلة من الإنتاج إلى البيع المباشر للمواطن مع تفويت الأراضي المتوفرة لديها من أراضي الجموع وأملاك الدولة والأوقاف وكذلك مساعدتها على اقتناء أراضي الخواص وأضف الى ذلك تراخيص الصيد البحري وتربية الأسماك وأيضا تراخيص الاستثمار بشروط تفضيلية في قطاع اللوجيستيك للتخزين والنقل والتوزيع وقطاع الصناعة الغذائية من العقار الصناعي إلى الإنتاج.
وسيكون لزاما عليها عقد شراكات متعددة مع كافة المتدخلين في قطاع الأمن الغذائي كالمكتب الشريف للفوسفاط ووكالة التنمية الفلاحية والمكتب الوطني للصيد البحري ومعاهد البحث العلمي المتخصصة في الزراعة والصيد البحري والماء ومكتب التكوين ومعاهد التكوين المهني وغيرها من الشركات التي تفتح لها آفاق التطوير والإنتاج المستدام والجودة والتسويق التضامني.
بالإضافة إلى ذلك يمكن لهذه الشركة/الشركات أن تستثمر في بعض الدول ذات المؤهلات الغذائية واللوجيستيكية الجيدة من أجل تزويد السوق الوطني.
كما يمكن لها أن تنشئ أسواقا كبرى وفق مقتضيات تحافظ على التوازن بين تنافسية القطاع ومصالح المستثمرين الخواص وإمكانيات المواطنين.
وحتى لا تحيد عن هدفها الأسمى وتحقق ديمومتها بالجدية اللازمة يجب أن تحظى بعناية خاصة بجعلها في مستوى المؤسسات الاستراتيجية التي ينص عليها القانون التنظيمي للمؤسسات العمومية مع إخضاعها لنظام حكامة صارم يرشد التكاليف ويجود النتائج.
وهكذا تستطيع الدولة أن تضمن تقنين وضبط سوق المنتوجات الغذائية وفي نفس الوقت تمكن شرائح كثيرة من المجتمع من الوصول إلى هذه المواد بكلفة أقل وجودة أفضل.