بقلم: عمر لبشيريت
مرّ نصف قرن على اغتيال القائد الاتحادي عمر بنجلون بمدينة الدار البيضاء، صبيحة يوم 18 دجنبر 1975.
جريمة سياسية متشابكة الأطراف، ظلّ الغموض يكتنف تفاصيلها، رغم محاكمة المنفذين.
اتهمت “الشبيبة الإسلامية” بارتكابها، وجرت محاكمة المنفذين، فيما تم “تهريب” القائد الرئيسي في العملية، وجرى “التكتم” عليه، عبد العزيز النعماني، إلى أن غادر المغرب نهائيًا دون أن يتم توقيفه.
قبل 16 سنة، نشرت أسبوعية “الحياة” (التي أنشأها الأخ والصحافي محمد حفيظ) وثيقة كان قد أعدّها فريق التحريات بهيئة الإنصاف والمصالحة حول اغتيال عمر بنجلون. تلك الوثيقة لم تُنشر أو تُعمّم، لحد اليوم، ضمن وثائق وأعمال هيئة الإنصاف والمصالحة إلى اليوم.
وفور نشرها، تسببت في ردود فعل قوية أدّت إلى مقاضاة أسبوعية “الحياة” من طرف الراحل أحمد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان آنذاك، من أجل وقف نشر ما تتوفر عليه الأسبوعية من وثائق أخرى، لا تُعرف إلى اليوم أسباب إبقائها طيّ الكتمان، رغم أنها تهم تحريات وشهادات لفاعلين وشخصيات ومسؤولين في الدولة، وتتضمن كنزًا من المعلومات والحقائق.
وكان أحمد حرزني قد رفع أيضًا دعوى قضائية ضد أسبوعية “الجريدة الأخرى”، التي كان يديرها علي أنوزلا، بسبب نشرها جانبًا من هذه الوثائق.
ورغم أن الوثيقة التي نشرتها “الحياة” كشفت، رسميًا، ما كان يتردد في الكواليس من تورط الأجهزة المغربية في اغتيال عمر بنجلون، فإن ما نُشر آنذاك كان منقوصًا لغرض مهني.
كان الغرض الأهم هو الرغبة في دفع المعنيين بالأمر إلى كشف حقيقة أن تحريات ومعلومات مهمة من عمل هيئة الإنصاف والمصالحة ظلت محجوبة عن الرأي العام.
الحقيقة التي “سكتنا” عنها آنذاك، لأسباب مهنية تهم حماية مصادرنا، هي كالتالي:
عندما توصلت بالوثيقة من طرف مصدري، رحمه الله، وبعد الاطلاع عليها رفقة الأخ محمد حفيظ، كانت هناك مفاجأة تنتظرنا في آخر التقرير المعدّ باحترافية كبيرة من طرف الأستاذ عبد العزيز بناني (لم نذكر اسمه حينما نشرنا الوثيقة).
المفاجأة كانت في الخلاصة التي انتهى إليها التقرير، والتي تقول بالحرف، وبدون لفّ ولا دوران، إن هناك:
“قرائن قوية تفيد تورط جهات أمنية بالمغرب في عملية اغتيال بنجلون”.
بمعنى أن جهازًا أمنيًا، يُرجّح أن يكون “الكاب 1”، هو الذي هندس العملية، وأن “الشبيبة الإسلامية” قامت بالتنفيذ. فهل كانت “الشبيبة الإسلامية” مخترقة؟
هذا الاعتراف الرسمي الخطير، والأول من نوعه، سرعان ما تلاشى حينما اكتشفنا ورقة ملحقة بالصفحة الأخيرة للتقرير، هي بمثابة تصحيح للخلاصات النهائية. إذ تتضمن هذه الورقة خلاصة أخرى تم فيها شطب عبارة:
“قرائن قوية تفيد تورط جهات أمنية بالمغرب في عملية اغتيال بنجلون”.
في الحقيقة، كان مصدري قد ارتكب خطأ حين سلّمني النسخة المعدّة للتصحيح، وليس النسخة النهائية التي تم اعتمادها، والتي حُذفت منها الخلاصة التي تُورّط الجهاز الأمني المذكور.
بعد التداول في الأمر، قررنا نشر النسخة الأولى من الوثيقة، والتي تتضمن الخلاصة التي تتهم الدولة المغربية بتخطيط عملية اغتيال عمر بنجلون.
كنا نراهن على خلق ضجة تدفع المجلس، الذي ورث الهيئة، إلى إصدار بيان حقيقة يوضح فيه أن التقرير الذي نشرناه غير حقيقي، وأننا زورنا الوثيقة. آنذاك، كنا سنكشف حقيقة أن خلاصات التقرير تم تغييرها من طرف الهيئة، أو أطراف منها، ونقوم بنشر النسختين معًا.
لم يقع أي شيء مما “خططنا” له.
بل إن أحمد حرزني قام بمقاضاة الجريدة من أجل وقف نشر باقي الوثائق، وتسليم ما نتوفر عليه إلى المجلس، وفرض غرامة مالية عن كل وثيقة نقوم بنشرها.
فالخلاصات التي نشرناها ظلت هي المتداولة إلى اليوم، لكن النسخة الموجودة في خزائن المجلس تتضمن خلاصات مخالفة. فمن ضغط أو قام بتغيير تقرير الهيئة حول قضية اغتيال عمر بنجلون؟
الجواب يوجد في أرشيفات هيئة الإنصاف والمصالحة.
هذا الأرشيف الغني، الذي لم يتم نشره للعموم، كان موجودًا بمقر الهيئة بعمارة السعادة بالرباط. ولا يُعرف أين تم نقله بعد ذلك، ولا من يحتفظ به.
مصادر من الهيئة سبق أن اطلعت عليه أكدت أن الأمر يتعلق بخزائن من المعلومات تهم جلسات الاستماع الخاصة، ونتائج التحريات، والزيارات الميدانية، والوثائق، والمقابلات مع العديد من الشهود والمسؤولين الأمنيين من مختلف الأجهزة ( أبرزهم محمد العشعاشي).
نفس المصادر تؤكد أن التقارير التي تم نشرها للعموم مجرد خلاصات عامة، ولا تتضمن كافة المعلومات والتفاصيل التي جمعتها الهيئة.
لذلك، فإن العمل الحقيقي الذي قامت به هيئة الإنصاف والمصالحة لم يطلع عليه المغاربة، وستظل الحقيقة غير معروفة دون نشر هذا الأرشيف.
فمتى سيتم نشر أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة؟