وأنت تسير على أرصفة شارع الحسن الثاني ببني ملال، حيث يمتزج صخب المقاهي التي تؤثت جنبات الطريق بجلبة السيارات وترددات المارة، لابد أن تلمح رجلا أشعث يقف في زاوية غير مرئية، مشكلا جزءا من المشهد، لا يحمل من الدنيا سوى ثياب مهترئة، وعينين غائرتين، وتقاسيم وجه تفصح عن معاناة عظيمة، وكلمة واحدة يرددها بوعي أو بجنون: “درهم…”.
كلما اقتربت منه تسمع تمتمات غير مفهومة، ففي حديثه المتقطع تتلاقى الكلمات بشيء من الفوضى، لكن خلف أقاويله المبعثرة تختبئ روح تبحث عن طوق نجاة، وعن منقذ يصغي لأنين رجل ربما كان في الأمس القريب ينعم بحياة هادئة.
يمشي بين الخطوات المتسارعة، يصطدم بأكتاف المارة، ويمد يده المرتجفة لعله يظفر بدرهم، يمر به الناس، منهم من ينظر إليه ويجود عليه بما طلب، ومنهم من يشيح بنظره، وكأنما وجوده جرح في ذاكرة المدينة يرغب الجميع في نسيانه.
وليس ببعيد عن هذا الشارع، يمكنك أن تلمح حالات إنسانية مماثلة، لأشخاص تختلف روحهم لكن تجمعهم نفس الظروف ويتقاسمون ذات المصير، كالرجل الذي دائما ما نشاهده يهرول صوب وجهة غير معلومة، كما لو أنه في سباق دائم للبحث عن قطعة من نفسه ضاعت في دهاليز هذه الحياة. لا نعرف عنه لا اسمه ولا حكايته، لكنه يبقى قصة من بين آلاف القصص التي أبطالها أشخاص يُطلق عليهم وصف “المختلون عقليا”.
ظاهرة المختلين عقليا تحت مجهر النظرة الحقوقية
حين سُئل عبد الرحيم مجدي، رئيس الفرع المحلي للجمعية المغربية لحقوق الانسان، عن سبب تضاعف عدد المختلين عقليا في مدينة بني ملال، أكد في تصريحه لجريدة “سفيركم” الإلكترونية، أن هذه الظاهرة تهدد سلامة وأمن المواطنين، وأن عدد المختلين في ارتفاع متواصل، قائلا: “بالفعل أصبح مألوفا أن ترى في كل أحياء وأزقة وشوارع مدينة بني ملال مختلين عقليا يتجول بكل حرية. والملاحظ أن في كل يوم تظهر وجوه جديدة. مما يطرح تساؤل: هل تواجد المختلين عقليا بهذه الكثافة تساهم فيه جهات معينة وبشكل منتظم حيث تستقدمهم من مدن أخرى عبر وسائل نقل؟، مما يهدد السلامة البدنية للمواطنين”.
وأبرز مجدي أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تعتبر المختل العقلي مواطنا من الدرجة الأولى وليس من الدرجة الثانية، وأن هذا، سبب وجيه كي يتمتع بجميع حقوقه الأساسية التي يكفلها له كل من الدستور والمواثيق الدولية بالإضافة للحماية الاجتماعية.
وقال مجدي: “إن مؤسسات الدولة بما فيها الحكومية لا تقوم بالدور المنوط بها، والخدمات التي تقدمها الأقسام والمصالح الصحية النفسية بالمستشفيات الجهوية لا تفي بالحاجة”، موضحا أن عدد المختلين عقليا في تزايد مستمر، حيث أن إحصائيات سنة 2022 تشير إلى 200 ألف حالة وطنيا، تتكفل مصالح المستشفيات بـ2000 مريض منها فقط، أي ما يعادل نسبة 1٪، ما يجعل الحالات الأخرى معرضة للتشرد والضياع بالشارع.
وواصل قائلا: “في غياب إرادة سياسية من أجل حمل العبء الثقيل عن الأسر، تضطر مكرهة في آخر المطاف إلى أن تتخلى عن التزامها”.
ومن جانبه، أوضح ابراهيم بنحسو؛ وهو فاعل مدني وحقوقي بمدينة بني ملال، أن المدينة تعرف بين الفينة و الأخرى موجات من الأشخاص الذين يعانون من أمراض عقلية، يجوبون الشوارع بملابس رثة و أحيانا عراة بشكل يمس بكرامتهم، ويخدش الحياء العام، ويمس بالطمأنينة والسكينة العامة.
واستطرد المتحدث ذاته أن ذاكرة مدينة بني ملال ما تزال تحتفظ بوفاة شيخ بشارع محمد الخامس، متأثرا بضربة مختل عقلي كان يمشي في الشارع بهدوء، قبل أن يهوي على الضحية بحجرة أردته قتيلا، إلى جانب قصة الشرطي الذي قتله مختل عقلي، فضلا عن الإصابات التي يتعرض لها المواطنون والمواطنات بشكل شبه يومي، وما يطال المنشآت العامة من تخريب.
وشدد على أن المكان المناسب للأشخاص المصابين بالأمراض العقلية، يبقى هو المستشفى، لافتا إلى أن “المدينة لا تتوفر إلا على جناح صغير في المستشفى الجهوي، بطاقة استيعابية تقل عن 30 سريرا، فضلا عن عجز المستشفى وعدم قدرته على الاحتفاظ بالمرضى لمدد كافية للاستشفاء ..في حين يقتصر القطاع الخاص المتخصص في الأمراض العقلية على التشخيص والدواء دون الإيواء” .
ولم يغفل بنحسو عن المعاناة الكبيرة التي تثقل كاهل أسر المرضى العقليين، قائلا: “معاناة أسر المرضى تبقى كبيرة، خاصة فيما يتعلق بغياب بنيات الإيواء وصعوبة التعامل مع هذه الفئة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بآباء كبار في السن”.
ما سبب ارتفاع الظاهرة ببني ملال ومن يتحمل المسؤولية؟
عزت فاطمة كريم، وهي فاعلة مدنية، ورئيسة لجنة السياحة والشؤون الثقافية بجهة بني ملال خنيفرة، في تصريح مماثل لجريدة “سفيركم” الإلكترونية، تضاعف عدد المختلين عقليا في جهة بني ملال خنيفرة، إلى سببين رئيسيين: «أولهما درجات الحرارة المرتفعة بالجهة التي تزيد من شدة حالتهم، خاصة إن كانوا يتعاطون للمخدرات، وثانيا؛ أنه في المدن الكبرى هناك خوف على صورة المغرب، لذلك يتم ترحيل المختلين عقليا في حافلات خاصة من مدن سياحية إلى مدن أخرى كبني ملال، خريبكة، الفقيه بن صالح، لحفظ ماء الوجه».
واعتبرت المتحدثة ذاتها أن الاختلال العقلي والتشرد ظاهرة كونية، تفاقمت في السنوات الخمسة الأخيرة، وخصوصا في جهة بني ملال خنيفرة، مضيفة أنه لا يمكن الحديث عنها في معزل عن الظروف والواقع المعاش في المغرب، من قبيل: انفكاك الأسرة المغربية وما ينتج عنه من ظواهر أخرى كأطفال الشوارع، الأمهات العازبات والمخدرات والتشرد وغيرها.
وواصلت مؤكدة على أن الحديث عن هذه الظاهرة، “يتطلب النظر إليها من الجانب السوسيولوجي، ففي السبعينات والثمانينات والتسعينات، كان المجتمع المغربي يتشبث بشكل قوي بالأسرة بمفهومها التقليدي، فالكل يقوم بدوره، والأزواج كانوا يبذلون الغالي والنفيس للحفاظ على أسرهم، على عكس الآن الذي أصبح فيه نوع من الاستخفاف بقيمة وقدسية الأسرة، وذلك على الرغم من أن الأزواج يمتلكون في الأغلب مستوى تعليمي جيد، والضحايا بطبيعة الحال هم الأطفال الذين نجدهم فيما بعد مشردين أو مختلين عقليا”.
وذكرت فاطمة كريم أن مسؤولية المختلين عقليا تقع على عاتق الجميع، لكن تتحملها بالدرجة الأولى أسرة الأفراد المعنيين بالأمر، قائلة: “هذا نداء للآباء والأمهات، لتحمل مسؤولية كل فرد في الأسرة، على الرغم من حالته، لأنه مسؤولية إنسانية وأخلاقية قبل أن تكون دينا وعهدا على العائلة، إلى جانب ذلك من الضروري العمل على تنظيم حملات توعوية حول هذه الفئة، وكذا الاشتغال في إطار مقاربة تشاركية تنخرط فيها كل من الوزارة المكلفة بالتضامن الاجتماعي، والجماعات الترابية ووزارة الصحة والتعليم والمنتخبين تحت إشراف وزارة الداخلية”.
وتذكرت فاطمة كريم، الدكتورة الخمليشي حين قالت للملك الراحل الحسن الثاني، أنه يجب إيجاد حل لظاهرة المخدرات، وأنه من المهم أن يتوفر المغرب على مآوي ومستشفيات ومراكز مخصصة للإدمان، لافتة إلى أن هذه الفئة تهدد أمن الساكنة فكثير ما ارتكب مختلون عقليا جرائم في حق المواطنين.
وسلطت فاطمة كريم الضوء على حقيقة أن بعض المشردين والمختلين عقليا يفضلون بالفعل العيش في الشارع دون التزامات وبشكل مجاني، قائلة: “يوجد مأوى في الفقيه بن صالح يستقبل المختلين عقليا و الأشخاص المشردين في الجهة من كافة الأعمار، حيث يمكنهم الاستحمام والحصول على وجبات مجانية، لكن فئة المراهقين منهم، التي كنا قد استقدمناها من مدينة خريبكة وبني ملال، فضلت الهروب والعودة إلى الشارع، على الرغم من أننا وفرنا لهم التعليم والرياضة والترفيه”.
المختلون عقليا.. أي تأثير على سياحة جهة بني ملال خنيفرة؟
وفيما يتعلق بتأثير هذه الظاهرة على السياحة الجهوية، شرحت فاطمة كريم، التي تشغل منصب رئيسة لجنة السياحة والشؤون الثقافية بجهة بني ملال خنيفرة، أن تداعياتها ليست كبيرة على هذا القطاع، قائلة بصالح العبارة: “الظاهرة لا تؤثر بشكل واضح على هذا القطاع، وأؤكد أن وزارة السياحة ليست هي المسؤولة، بل المتدخلين والشركاء الآخرين من يجب أن يشتغلوا معنا في هذا الإطار، ولم لا يتم إنشاء مآوي لعلاج هذه الفئة نفسيا بالدرجة الأولى، ليتأكدوا بأنهم مواطنين مغاربة، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لإعادة ثقتهم في وطنهم وفي مغربهم العزيز”.
المختلون عقليا.. ما الحل؟
طالب عبد الرحيم مجدي، رئيس الفرع المحلي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بتوفير الحماية الاجتماعية لكل الأشخاص ذوي الاحتياجات، وخاصة المرضى العقليين والنفسيين، وذلك بتشييد مراكز اجتماعية جهوية خاصة بكل هذه الفئات، تكون طاقاتها الاستيعابية ملبية للاحتياجات المتزايدة مع تشغيل موارد بشرية مختصة، إلى جانب إدراج الصحة النفسية في التأمين الصحي الإجباري لضمان ولوجهم الأمثل للعلاج، وكذا تخصيص مصحات مجهزة بشروط حراسة مشددة لضبط سلوك المرضى عقليا، لتمكينهم من الأدوية، مؤكدا في ذات الوقت على أهمية دعم الدولة للأسر ماديا من أجل التكفل ورعاية أبنائها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتخصيص مجالس الجهات لميزانية خاصة دعما لهذه الفئات تصرف في مراكز اجتماعية.
وبدورها، قالت فاطمة كريم على إنه لا يمكن القضاء على الظاهرة بين عشية وضحاها، أو من خلال نقلهم إلى المستشفى، بل من المهم العودة إلى موطن الخلل؛ أي الظواهر الاجتماعية التي تجعل من إنسان سوي آخر مختل عقليا، كالتشرد والمخدرات والانحراف والسخط عن المجتمع لأنه مجهول الهوية، قائلة: “أخذهم إلى مستشفى المجانين وتركهم هناك ليس حلا، بل يجب أن تتظافر جهود مختلف الجهات المعنية بهذه الفئة، بداية بالأخصائيين النفسيين، وأفراد الوقاية المدنية ووزارة الداخلية، ووزارة الصحة والتضامن الاجتماعي”.
أما الفاعل الحقوقي والمدني، إبراهيم بنحسو، فقد دعا الجهات المعنية إلى “الكف عن نقل الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية إلى المدينة، وبناء بنيات استشفائية لاستقبالهم في مدنهم وعلاجهم، والتعجيل ببناء المستشفى الجهوي للأمراض العقلية ببني ملال لإيواء هذه الفئة، من أجل ضمان علاجها وصون كرامتها وكرامة أسرها”.
وسيمكن إنشاء بنية صحية لهذا الغرض، بحسب بنحسو، من الاحتفاظ بهؤلاء المرضى لمدد تسمح بشفائهم أو تجاوز فترات الهيجان، ما سيؤدي في الأخير إلى حماية المواطنين من اعتداءات هؤلاء الأشخاص، وضمان حقهم في السلامة الجسدية والنفسية.
تعليقات( 0 )