في لحظة فارقة من تاريخ الجمهورية الخامسة، اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يضع مصيره السياسي بين يدي فرانسوا بايرو، الذي عُين اليوم الجمعة رئيساً للحكومة في واحدة من أصعب المحطات التي تمر على زعيم حركة “إلى الأمام”.
ووسط برلمان “مبلقن” ومعارضة شرسة، يمينية ويسارية، بات بايرو يجسد الأمل الأخير لإنقاذ رئيس يتأرجح فوق حافة السقوط السياسي، لكن من هو هذا الرجل الذي انتقل من منافسة ماكرون إلى محاولة إنقاذه؟
ولد فرانسوا بايرو عام 1951 في قرية صغيرة بمنطقة بوردير على ضفاف المحيط الأطلسي، درس الأدب الكلاسيكي، وأصبح أستاذاً متخصصاً في تدريس اللغة الفرنسية، قبل أن يشق طريقه نحو عالم السياسة.
دخل بايرو الحقل السياسي من بوابة الحزب الديمقراطي المسيحي، حيث عمل في الظل لسنوات قبل أن يتولى وزارة التعليم في تسعينيات القرن الماضي في عهد الرئيسين فرانسوا ميتيرون وجاك شيراك؛ اكتسب خلالها شهرة بفضل إصلاحات جريئة تهدف لتحسين النظام التعليمي الفرنسي، لكن في الوقت نفسه أثارت بعض الجدل، حسب معارضيه السياسيين.
وفي عام 2007، ترشح لخوض الانتخابات الرئاسية لأول مرة، مقدماً نفسه كبديل وسطي للنظام السياسي المنقسم بين اليمين واليسار، إلا أن رؤيته لم تؤتي ثمارها، بيد أن ترشحه كزعيم يسعى لتوحيد الصفوف بعيدا عن الحزبين الرئيسين، عقدت هالة وطنية حوله جعلته قريبا من مختلف الصنوف السياسية الفرنسية.
ومع صعود نجم إيمانويل ماكرون قبل فوز الأخير بانتخابات 2017، كان بايرو مرشحاً للرئاسة مرة أخرى، لكنه اتخذ قراراً مفاجئاً بالتخلي عن ترشحه ودعم ماكرون، بعيد وصفه له بأنه “مرشح المال والمصالح المالية الكبرى”؛ وهو قرار استراتيجي أعاد تشكيل مستقبله السياسي.
عينه ماكرون بعدها وزيرا للعدل في حكومة الرئيس الفرنسي الأولى، اعتبر حينها تتويجا لهذا التحالف المعلن خلال الحملة الانتخابية، لكن بايرو سرعان ما استقال بسبب “شبهات قانونية”، ما جعله ينسحب مؤقتا من المشهد السياسي.
الآن، يعود بايرو إلى المشهد من بوابة رئاسة الحكومة، في وقت تواجه فيه فرنسا مأزقا سياسيا غير مسبوق، مع غياب أغلبية تشريعية في البرلمان، ما دعا الصحافة الفرنسية إلى اعتباره صانعا للتسويات في مرحلة باتت فيه التوازنات والتوافقات أمراً حتميا.
يوصف بايرو في الأوساط السياسية الفرنسية بـ”السياسي الذي يعرف كيف يتحدث مع الجميع دون أن يخسر أحدا”، وهي مهارة أصبحت نادرة في فرنسا التي تمزقها الانقسامات الحزبية.
رغم هذا، لا يخلو بايرو من الانتقادات؛ فبعض خصومه يرونه مترددا أحيانا، وغير قادر على اتخاذ قرارات حاسمة في اللحظات الحرجة، لكن أنصاره يؤكدون أنه رجل يعرف كيف ينتظر اللحظة المناسبة للتحرك.
فرانسوا بايرو ليس فقط رئيسا للحكومة في فترة أزمة، بل هو رمز للتوازن في وقت تتخبط فيه الجمهورية الخامسة بين صراعات الأحزاب ودعوات المعارضة لانتخابات مبكرة قد تغير وجه المشهد السياسي بأكمله.
وفي مكتبه الجديد بقصر ماتينيون، يواجه بايرو ملفات شائكة، من بناء تحالفات برلمانية مستحيلة إلى استعادة ثقة شعبية متآكلة، دون إغفال ضرورة جمع الشتات للمصادقة على مشروع الموازنة العامة 2025 (قانون المالية) قبيل نهاية السنة، وهو المشروع الذي أطاح بمن سبقه للقصر، ميشيل بارنيي.
بالنسبة لبايرو قد تكون هذه المهمة أكبر تحد في مسيرته السياسية الطويلة، لكنها أيضاً فرصته الأخيرة ليترك إرثا يُذكر به، كرجل حاول أن يعيد لفرنسا توازنها وسط عاصفة سياسية غير مسبوقة.