شكلت نتائج البكالوريا لهذا العام في دورتها الاستدراكية، استثناء في أوساط التربويين والخبراء لما شهدته من ارتفاع في نسبة النجاح مقارنة مع السنة الماضية، رغم ما عرفته هذه السنة من إضرابات وصعوبات في تدبير الزمان المدرسي.
في هذا الحوار، مع موقع “سفيركم”، يسلط الدكتور خالد التوزاني، أستاذ باحث، ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، مساق، وخبير تربوي، مارس التدريس في مختلف أسلاك التعليم، لأزيد من عشرين سنة، الضوء على دلالات هذه النتائج، وكيف أضحت شهادة البكالوريا بهذا الاهتمام الكبير سواء من قبل المتعلمين وأولياءهم.
السؤال1: ما قراءتكم لهذه النتائج؟
-لا بد من الإشارة إلى أن نسبة النجاح هذا العام في الباكالوريا قد حققت نمواً ملحوظاً، حيث بلغت 79,4 في المائة، مقابل 74,3 خلال العام الماضي، وذلك حسب بلاغ وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة الصادر بتاريخ 19 يوليوز 2024، كما أن نتائج بعض الجهات في المملكة تجاوزت نسبة النجاح فيها 96 في المائة، مسجلة بذلك زيادة ملحوظة مقارنة مع السنوات الماضية، ومن الواضح أن هذه الحصيلة المشرّفة تؤكد حجم الجهد الجماعي الذي بذلته الأسر المغربية والتلاميذ والتلميذات مستفيدين من الإمكانات التي وضعتها وزارة التربية الوطنية رهن إشارتهم، وعلى رأسها اعتماد نماذج متعددة من أشكال تمرير المقررات الدراسية وتتبع تنفيذها، حيث لم يعد تلقي الدروس في الأقسام حضوريا الطريقة الوحيدة للتعليم، وإنما أصبحت هناك أشكال موازية تدعم التعلمات وترسخ المكتسبات، ومنها المنصات الرقمية التي وضعتها الوزارة رهن إشارة التلاميذ وتضمنت بالإضافة إلى الدروس الرئيسة سلسلة من حصص الدعم والتقوية، وأيضاً تفعيل الأقسام الافتراضية، سواء عبر منظومة مسار أو تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، وهي المواد الرقمية التي قام بإعدادها نخبة من الأساتذة والخبراء في المجال، وهذا ما جعل طرق التعليم متنوعة وتستجيب لطبيعة العصر والانتقال الرقمي، ومن الأكيد أن هذه التحولات التقنية، وخاصة اعتماد الرقمنة، يأتي انسجاماً مع التوجهات الجديدة في التدبير والتسيير والتي جعلت من المغرب بلداً منخرطاً في البيئة الرقمية العالمية، وهو ما فتح أمام التلاميذ والطلاب المغاربة آفاقاً جديدة للتعلم والاكتشاف ومزيداً من تكافؤ الفرص والمساواة والإنصاف وتجاوز العديد من الصعوبات، ولذلك فإن إدماج التكنولوجيا وعلى رأسها الرقميات في المدرسة المغربية، كان له الأثر المباشر في تحسين النتائج وبلوغ نسبة عالية من النجاح، ومن شأن هذا التحول أن يزيد من نسبة النجاح في الأعوام المقبلة لتصل إلى نسبة تقترب من مائة في المائة، خاصة مع التغييرات التي تطال حاليا بعض المقررات والمناهج وعدد الساعات، بالتركيز على الكيف وليس الكم، وبناء مهارات التفكير والتحليل والتركيب عوض التركيز على الحفظ والاسترجاع، أي الانتقال إلى المهارات والكفاءات والاندماج عوض تراكم المعلومات وتكديسها، ولذلك جاءت نتائج الباكالوريا لعام 2024 مشرفة جداً وتعكس أهمية خارطة الطريق التي بدأت ثمارها تبرز في الارتقاء بجودة التربية والتعليم.
السؤال2: ما دلالات هذه النتائج المحققة رغم ما عرفه الموسم الدراسي من صعوبات؟
-تؤكد هذه النتائج أهمية الإصلاح التربوي والتعليمي الذي دشنته وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، من خلال تنزيل خارطة الطريق، استناداً إلى رؤية ملكية سامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، والذي أولى التعليم أهمية خاصة، جعل هذا القطاع يحتل مكانة اعتبارية، وأولوية وطنية بعد استكمال الوحدة الترابية للمملكة وتعزيز ريادة المغرب في عدة مجالات ثقافية واقتصادية واجتماعية، ولذلك فإن انخراط الدولة والمجتمع في إنجاح ورش التعليم، خلال عام 2024، قد أسهم بشكل فعال في تحقيق هذه النتائج المهمة، على الرغم من التحديات الكبرى التي رافقت مشاريع تنزيل الإصلاح والمخاوف بشأن مدى نجاعته وفعاليته، بالنظر لتراكم الإصلاحات السابقة ومحدوديتها، ولذلك عبّرت الإرادة الجماعية الجديدة في النهوض بالمدرسة المغربية المعاصرة عن روح مواطنة عالية ووعي تربوي منفتح وإحساس مشترك بالمسؤولية، وهو ما جعل الجميع ينخرط في مشروع الإصلاح، حيث لم تتدخل فقط وزارة التربية الوطنية في تدبير قطاع التعليم، وإنما قامت بإشراك غيرها من الوزارات الأخرى وباقي الشركاء من المجتمع المدني والمؤسسات والهيئات، على اعتبار أن التعليم قضية تهم المجتمع برمته، والنجاح في هذا الورش هو نجاح لكل الأوراش، لأن التعليم هو الأساس لكل نهضة، بما أنها يستهدف بناء الإنسان، ولذلك كان التدبير على مستوى عالٍ من الحكامة الجيدة وروح المبادرة والتضحية التي طبعت عمل وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، وقد عكست النتائج الإيجابية للباكالوريا صدق هذه الجهود ونجاعتها، وهو ما يعيد الثقة في هذا القطاع الأكثر أهمية.
السؤال3: هل امتحان البكالوريا بالصيغة الحالية يسمح للمتعلمين بتحقيق الكفايات المرجوة؟
-عرفت امتحانات الباكالوريا خلال السنوات الأخيرة تغييرات كبيرة، وخاصة سنة 2024، حيث أصبحت أكثر دقة ومصداقية، من حيث قياس مستوى المهارات والقدرات المكتسبة، وبالاستناد إلى مرجعيات علمية وأسس تربوية جديدة تواكب العصر مثل إدماج الرقمنة في تدبير هذه الامتحانات، ما ساعد على تحقيق المزيد من تكافؤ الفرص وتعزيز الشفافية والحكامة الجيدة، ولذلك يمر إعداد مواضيع امتحانات الباكالوريا عبر عدة مراحل، تبدأ بإعداد الأطر المرجعية لكل مادة، وتحديد الدروس الأساسية، والمهارات التي يتعين اكتسابها، إضافة إلى القيم التي يتم تمريرها، لأن هذه الامتحانات لم تعد ترتبط فقط بالمعلومات بشكل مستقل أو منعزل عن السياق، وإنما أصحبت موجهة لخدمة أهداف التكوين بشكل أكثر شمولية ودقة، أي تكوين مواطن مغربي قادر على الاندماج في العصر بما يملك من قدرات تؤهله للعمل والإنتاج وتساعده على الابتكار والتجديد، مع التشبع بالقيم الإنسانية الكونية، التي تعزّز الاختيارات الكبرى للمغرب في الانفتاح والتواصل والوسطية والاعتدال والتسامح والالتزام بالمسؤولية وروح المواطنة، في حرص على التمسك بالثوابت الدينية والوطنية للمملكة، ولذلك فإن تطوير امتحان الباكالوريا باستحضار الغايات الكبرى للتكوين واستحضار النموذج المغربي الجديد للتنمية في بُعده التربوي والإنساني واستشراف المستقبل، يمكن أن يسمح للمتعلمين بتحقيق الكفايات الرئيسية التي يحتاجها الإنسان المعاصر، وعلى رأسها القدرة على التواصل والتعبير والتفكير الناقد والتعامل بعقلانية مع الواقع والتكنولوجيا.
السؤال4: ما الذي يمنح البكالوريا كل هذا الاهتمام الاجتماعي من قبل التلاميذ وأسرهم؟
-إن ما يمنح الباكالوريا هذا الاهتمام الاجتماعي الكبير، هو كونها محطة أساسية في مسار الأسر المغربية وفلذات أكبادها، لأنها تتويج لسنوات طويلة من الكفاح ومن مراحل التربية والتعليم، وعبر أسلاك مختلفة من التعليم الأولي ثم الابتدائي والإعدادي، فتأتي الباكالوريا لتمثل حصاد تلك السنوات، ولتكون مرحلة حاسمة لما سيأتي بعدها من مسارات، ذلك أن التعليم بالنسبة للمغاربة، ومنذ عدة عقود، يمثل جسراً للارتقاء الاجتماعي وتحسين الأوضاع الاقتصادية للأسر والعائلات المغربية، وهو ما يؤكده الواقع المغربي؛ حيث استطاع الكثير من أبناء الطبقات الفقيرة في المدن والقرى النائية الارتقاء إلى أعلى درجات النجاح المهني وتعزيز مكانتهم الاجتماعية مادياً ومعنوياً، إذ العديد من كبار العلماء والخبراء ورجالات الدولة..، جاؤوا من أسر لم تكن تملك إلا عقولاً مفكّرة وحماساً قوياً ورغبة صادقة في التعلم واكتساب المعرفة، فنالوا أرفع الدرجات بسبب تفوقهم الدراسي، ولذلك ستبقى المدرسة العمومية ركيزة أساسية في التنمية، وستظل الباكالوريا محط اهتمام الأسر المغربية، على الرغم من كل التحولات التي عرفها المغرب مثل تعزيز مكانة القطاع الخاص في التعليم، إلا أن التعليم العمومي يبقى المورد الأكثر غنىً وأهمية، إذ يمثل خزّاناً هائلا من الكفاءات والقدرات التي تعزّز الرأسمال البشري في المغرب، سواء من حيث الكمية أي نسبة الشمولية والعمق في المجتمع المغربي أو من حيث النوعية أي عدد الحاصلين على الميزات العالية في الباكالوريا من منتسبي المدرسة العمومية بل وفي مدن صغيرة نائية، الشيء الذي يؤكد أهمية هذا الاستحقاق الوطني.
السؤال5: ألا ترى أنه لابد من تغيير منهجية التقييم في البكالوريا لضمان فعالية أكبر في التحصيل العلمي للطلبة؟
-هناك جهود كبيرة تُبذل حالياً من أجل تحقيق المزيد من الارتقاء بمنهجية التقييم سواء في الباكالوريا أو الامتحانات المدرسية بشكل عام، حيث إن التدبير التشاركي الذي اختارته وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة في تسيير قطاع التعليم وفي الإصلاح والتطوير، قد بدأت ثماره تتضح مع النتائج الإيجابية التي تحققت هذه السنة في معدلات الباكالوريا، ولم يكن هذا النجاح مرتبطاً بالأرقام فحسب، ولكن عندما نفتح مواقع التواصل الاجتماعي وننصت للكثير من التلاميذ المغاربة وهم يتحدثون بطلاقة باللغة العربية وباللغات الأجنبية، وعندما نقرأ ما يكتبونه من مواضيع إنشائية تحمل لمسات إبداعية واضحة وبلغة سليمة ومعبرة، إضافة إلى مواقفهم الإيجابية من الحياة والتقدم، وانفتاحهم وقدرتهم على الإبداع والتميز، فإننا نكون أمام تحول كبير يشهده قطاع التربية والتكوين والتعليم ببلادنا، ويُبشّر بجيل جديد من الكفاءات المغربية التي تشرّف بلدها المغرب وتمثله خير تمثيل في المستقبل، وخاصة مع التوجهات الكبرى للمغرب في الانفتاح والعالمية، وريادته في أكثر من مجال من مجالات المستقبل، وفق إرادة ملكية سامية ومستنيرة ترعى هذا القطاع وتوليه عناية فائقة.
حاوره: ياسين حكان (كاتب وباحث)
تعليقات( 0 )