بقلم: عبد الرزاق بن شريج، مفتش تربوي متقاعد
هل يعقل أن تكون منظومة التربية الوطنية، التي تُصرف عليها ميزانيات ضخمة لتمويل إصلاحات تلو إصلاحات لا تنتهي، عاجزة عن نشر رقم بسيط يتعلق بعدد مفتشيها بمختلف تخصصاتهم؟
سؤال بسيط… لكنه يكشف عمق أزمة الشفافية في قطاع يفترض أنه يربّي على المواطنة والمحاسبة.
أنا، رجل تعليم قضيت اثنتين وأربعين سنة في خدمة المدرسة العمومية، منها أكثر من ثلاثين سنة كمفتشً تربوي. وبعد هذه التجربة الطويلة، أسمح لنفسي أن أطرح سؤالاً قد يبدو للبعض محرِجًا:
لماذا يبقى عدد مفتشي وزارة التربية الوطنية في المغرب سراً غامضاً لا يظهر في أي وثيقة رسمية؟
بحثت في كل المراجع والإحصاءات التي تنشرها وزارة التربية الوطنية: التقارير السنوية، دلائل الدخول المدرسي، وحتى بيانات البرلمان!!! … لم أجد رقماً واحداً يوضح عدد المفتشين حسب الأسلاك والتخصصات.
فهل نحن أمام نسيان عرضي؟
أم أمام سياسة مقصودة لإبقاء هذا المعطى في الظل؟
أزمة صمت وتعمية لا تليق بوزارة يفترض أن تكون نموذجاً للوضوح
إن غياب هذا الرقم البسيط يفتح الباب أمام كل التأويلات:
كيف نحاسب جهاز التفتيش دون أن نعرف حجمه الحقيقي؟
كيف نُقيّم أداءه ونحن نجهل عدد المفتشين مقارنة بعدد الأساتذة والمؤسسات؟
وكيف يفهم الرأي العام أسباب غياب الزيارات (ة)الميدانية إن لم يُكشف له أن المفتش(ة) الواحد يشرف أحياناً على أكثر من مئتي أستاذ(ة)؟
من ثلاثين إلى مئتين: رقم صادم من الميدان
سأتحدث بالأرقام لا بالانطباعات.
في بداية التسعينات، كنت أؤطر ثلاثين أستاذاً وأستاذة، وكنت أزور كل واحد منهم مرتين في السنة على الأقل، ولكن أنهيت مشواري المهني في سنة 2021، بعدد تجاوز المئتين.
هل يمكن لعاقل أن يتوقع من مفتش(ة) واحد(ة) أن يؤدي مهامه التربوية في المواكبة والتأطير والتقويم بنفس الجودة في هذه الظروف؟
إنها معادلة مستحيلة يعرفها كل من اقترب من الميدان، لكن لا أحد يجرؤ على قولها بصوت عالٍ.
الوزير الجديد و” الرباعي القديم”
السيد الوزير،
أنتم حديثو العهد بالوزارة، وربما تتلقون تقارير من بقايا “الرباعي المركزي” الذي تحكم في دواليب الوزارة لسنوات طويلة. هذا الرباعي، الذي كتبت عنه خلال حياتي المهنية، العديد من المقالات، الرباعي الذي لم يبق منه سوى عنصر واحد، هو الذي فرّغ جهاز التفتيش من استقلاليته وجعل منه جهازًا بلا صوت ولا رقم، رغم إصراره على استتباع جزء منهم في مفتشية عامة برأسين.
واليوم، لم يبق من توجه هذا الرباعي سوى ظلّ في المكاتب، لكن أثره لا يزال واضحاً في غياب الشفافية الإحصائية وفي استمرار سياسة الإقصاء الصامت.
بين البرلمان و” حديث المقاهي”
قبل أسابيع، استمعنا إلى نائب برلماني (وهو أستاذ في الأصل، متفرغ منذ سوات) ينتقد غياب المفتشين عن الميدان، كلامه لم يخلُ من صحة، لكن طريقته في طرحه تعكس غياب المعلومة الدقيقة. لقد بنى خطابه على “حديث المقاهي”، لا على معطيات رسمية. او تعمد تذكر فقط ويل للمصلين،…
والمسؤولية هنا لا تقع على النائب وحده، بل على الوزارة التي تحجب الأرقام عن العموم، فتترك المجال لتناسل الإشاعات وتوجيه الاتهامات ضد هذا الفاعل الرئيس.
من حق الشعب أن يعرف
المسألة ليست تقنية ولا فئوية، بل قضية شفافية وحكامة وحق في المعلومة كما هو منصوص عليه دستوريا.
فحين لا نعرف كم عدد المفتشين، لا يمكن أن نعرف أين الخلل، ولا كيف نخطط لتكوين مفتشين جدد أو إعادة توزيع الموجودين. (ولنا عودة لمسأة تدبيرهم وتوزيعهم بين الأقاليم والفوضى التي تعرفها المديرية المركزية وبعض الأكاديميات)
من حق الشعب أن يعرف،
ومن حق المفتشين أن يُنصفوا بالأرقام لا بالظنون،
ومن واجب الوزارة أن تضع حداً لهذا التعتيم الغريب وتنشر المعطيات الرسمية كما تفعل كل الوزارات الجادة في العالم.
المدرسة المغربية لا تحتاج فقط إلى إصلاح البرامج والمناهج، والعرض المدرسي، بل إلى إصلاح ثقافة التدبير داخل الوزارة نفسها، حتى لا يبقى استعمال المعلومة المرتبطة بالأرقام سلاحاً بيد الإدارة بدل أن تكون أداة لإبراز الحقيقة، وخصوصا حقيقة تدبير “غير عقلاني” لهذه الهيئة.

