عبد المولى المروري
لن يجادل أحد في قساوة المشاهد التي نراها كل يوم في غزة، حتى أولئك الذين تسببوا فيها، حتى أولئك الذين يعملون ليل نهار على تدميرها وقتل أطفالها وإبادة أهلها يعترفون بقساوة ونعف تلك المشاهد..
هذه المشاهد التي آلمتنا حتى تبلد حسنا، وأبكتنا حتى جفت دموعنا، وأدمت قلوبنا حتى تصلبت عروقنا، والتي أغضبتنا حتى احترقت أعصابنا.. والمشاهد كما هي، لم تتغير، ولم تتوقف..
في هذه المشاهد وجدنا كل تناقضات الدنيا، وكل مفارقات التاريخ.. وتعرفنا على أنواع أخرى من المآسي التي لم نكن لنصدق وجودها لو لم نرها رأي العين، هل كنا لنصدق أن جثة طفل مسلم تصبح أكلة للكلاب الضالة في زمن التخمة البترولية التي تتمرغ فيها بعض أنظمتنا العربية القريبة؟ هل كنا لنصدق انتشار أشلاء الأطفال والنساء الممزقة والمنتشرة في الأزقة والشوارع لأيام حتى تعفنت ولم تجد ليكرمها بالدفن؟ هل كنا لنصدق أن حاكما عربيا مسلما يدعم الكيان الغاصب المجرم بالمؤن والبترول والحماية من المقاطعة، ويعلن كرهه وحقده المركز للمقاومة التي تدافع عن المقدسات والشرف والأرض؟
لقد سمعنا عن الحقد ومراتبه، ولكن لم ندرك أو نتصور أبشع وأقسى وأقصى مظاهر الحقد حتى ظهرت في أخلاق الكيان المحتل..
ولقد سمعنا عن النفاق وأشكاله، ولكن لم نكن نعرف أشنع هذه الأشكال حتى رأينا الأنظمة الغربية تجسده واقعا في تعاملها مع مأسي غزة وبأنذل وأحقر أسلوب وطريقة عرفه التاريخ..
ولقد سمعنا وقرأنا عن بعض أشكال الخيانات في التاريخ، ولكن لم نكن نتصور أن نعيش أفظع وأخبث صورها عند بعض الحكام العرب والمسلمين..
ولقد قرأنا وسمعنا عن بعض البطولات والأمجاد والنضالات الاستثنائية التي ذكرها التاريخ، وها نحن اليوم نراها رأي العين، على أيدي أبطال المقاومة، كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدق وصف ” لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك..” بطولات وصلت حد الأسطورة والإعجاز، كيف لشعب يتلقى عشرات الأطنان من القنابل والمتفجرات في بقعة صغيرة ويقبى صامدا ثابتا مرابطا في أرضه..؟ وكيف لمقاومة صغيرة مع قلة العدد والعتاد تواجه عدوا مؤججا بأقوى وأحدث وأخطر وسائل الدمار مع دعم من القوى الدولية العظمى؟ أليست هذه معجزة العصر ومن غرائب الزمان؟
مشاهد غزة لا تنتهي، كل لحظة من لحظات الإبادة التي يتعرض لها أهلها، تأتي بأغرب المواقف والمشاهد، والأحداث العجيبة، والغريبة عن منطق هذا الزمان وإنسان هذا العصر، يكفي أن بقعة مجهرية على الكرة الأرضية استطاع أهلها أن يجلب أنظار كل سكان هذه الأرض، من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي.. يكفي أنها حركت كل دول وشعوب العالم، وأوقفت الجميع على رجل واحدة..
غزة الآن لا تناضل فحسب، بل تقيم الحجة على كل الوطن العربي، بحكامه وملوكه وعلماءه وسياسته ومثقفيه وشعوبه، على رجاله ونساءه وشبابه..
غزة تقيم الحجة على ذلك الحاكم العربي والحاكم المسلم الذي باع القضية من أجل كرسي أو عرش زائل ذات يوم آت، طال الزمن أو قصر.. فلو دام ذلك لغيركم ـ أيها الحكام ـ ما وصل إليكم..
غزة تقيم الحجة على ذلك العالم والفقيه الذي أفرغ الجهد وبدل الوسع بحثا ودراسة وتحليلا في فقه الطهارة وأوجه الخلاف حول المسح على الجوارب، وهل تخرج الزكاة عينا أو نقدا، معرضا عن الحديث عن فقه الجهاد ونصرة المظلوم والدود عن مقدسات الإسلام التي تنتهك بالليل والنهار، وضاربا عرض الحائط إهدار دم المسلمين من الأطفال والنساء والشيوخ الذي يسفك في كل لحظة أمام أنظار وصمت هؤلاء العلماء والفقهاء..
غزة تقيم الحجة على ذلك المثقف والمفكر الذي يستهويه الحديث عن تميز اللباس العربي، وتنوع الطبخ العربي، وجمالية الخط العربي، وعظمة التاريخ العربي، ويقيم من أجل ذلك المحاضرات والندوات واللقاءات، ولا يحزنه سفك الدم العربي، ولا إزهاق روح الطفل والشيخ العربي، ولا يناضل ضد احتلال الوطن العربي.. وانحرفت الثقافة عن مسارها في عصر هؤلاء، من ثقافة المقاومة ونشر الوعي واستنهاض الشارع العربي، إلى ثقافة الصالونات والمواسم والرقص على جراح الشعوب المقهورة.. حالة من موت الضمير تسكن واقع المثقفين اليوم تسببت فيها الشيكات السخية والمناصب السجية والولاءات الغبية على حساب القضية..
غزة تقيم الحجة على المواطن العربي الذي تبلد حسه عند مشاهدة أحداث وصور وأخبار حرب الإبادة التي يعاني منها أهلها، ويقلب القناة بسرعة بحثا عن مباراة في كرة القدم التي ينفعل ويتفاعل معها أيما تفاعل، يتابعها بخشوع وتوتر.. أو بحثا عن برامج التفاهة والفضائح التي يجد فيها متعة كتلك المتعة التي يجدها المدمن في حقنة هروين أو لفافة حشيش.. فتغيب عقله عن الواقع، وتبلد حسه عن تحمل المسؤولية الأخلاقية في نصرة غزة وأهلها..
غزة لا تقاوم الآن فقط لتعيش، بل كذلك من أجل استرجاع الكرامة التي باعها حكامنا مقابل الكراسي والعروش، والتي تنازل عنها العلماء والمثقفون والسياسيون مقابل المناصب والقروش، والتي ضيعتها الشعوب العربية والإسلامية مقابل حياة ذليلة بئيسة تحت الطغيان والاستبداد حرصا على السلامة والأمان..
غزة لا تقاوم الكيان الغاصب فقط، بل تقاوم كل الأنظمة الغربية المنافقة والمتواطئة مع الكيان التي توفر له العتاد والحماية والدعاية، وتقاوم كل الأنظمة العربية الخائنة والعميلة والمطبعة، التي توفر للكيان المزيد من الوقت وتهيئة الظروف السياسية والاقتصادية لإنهاء جرائمه في أقصر مدة ممكنة خوفا من ثورة شعوبها عليها..
غزة لا تقاوم من أجل حريتها وكرامتها وحقها في العيش، بل تفعل ذلك لرفع وعي الجماهير العربية، وإسقاط الغشاوة التي وضعتها الأنظمة العربية على أعينها، وحقن أدمغتها بترياق الوعي بعد أن ملأها هذه الأنظمة بسموم الجهل والتخلف والتفاهة..
إن غزة تناضل وتضحي من أجل تحرير الشعوب العربية من الخوف والرعب الذي زرعته الأنظمة في القلوب، لعل هذه الشعوب المحتقرة والمجهلة والغارقة في البؤس والتفاهة تستفيق قريبا من غفلتها، وتسترجع كرامتها، وتنادي بحريتها وتطالب بحقوقها المنهوبة والمغتصبة، بعد أن رأت بسالة غزة وعزتها وشجاعتها وإصرارها على الكرامة والحرية تحت أطنان القنابل والمتفجرات، وكل أشكال الخيانات والمؤامرات.. ومع ذلك لم تستسلم، ولم تيأس ولم تتراجع عن إحقاق الحق وفرض الحرية واسترجاع الأرض والمقدسات..
مشاهد غزة ما تزال مستمرة ومتواصلة، ترسم بدم أبطالها وأطفالها ونساءها التي تثج أوداجهم به صورا معجزة من البطولات والإنجازات الأسطورية.. كما وصفهم الرسول في الحديث بأدق وأصدق وصف: ” عسقلان أحد العروسين، يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفا، لا حساب عليهم، ويبعث منها خمسون ألفا شهداء، وفودا إلى الله، وبها صفوف الشهداء، رؤوسهم مقطعة في أيديهم، تثج أوداجهم دما يقولون: ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك إنك لا تخلف الميعاد، فيقول: صدق عبيدي، اغسلوهم بنهر البيض، فيخرجون منه نقاء بيضا، فيسرحون في الجنة حيث شاءوا “.. طوبى لكم الجنة يا أهل عزة تسرحون فيها حيث شئتم..
هذه المشاهد التي عز الزمان على الإتيان بأقل منها وليس بمثلها.. مشاهد أخذت تغير مسار التاريخ، وتؤثر في الأحداث العالمية، وتصنع عالما جديدا، سيتغير فيه كل شيء، من موازين القوى الدولية، إلى مزاج المواطن العربي.. لتنتهي رحلة هذه المآسي اليومية إلى محطة التحرير النهائية، تحرير الأرض والإنسان الغربي والمواطن العربي من قوى الاستكبار العالمي واستبداد الحاكم العربي.. وإن غدا لناظره قريب..