ذكرى المولد النبوي..جذور الاحتفال التاريخية من عهد الموحدين

ذكرى المولد النبوي

مع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف، يتصاعد الجدل كل سنة بين من يؤيد الاحتفال به، ويعتبر هذا العيد فرصة للقيام بأعمال الخير والاهتداء بسيرة الرسول عليه الصلاه والسلام، وبين من يعتبر الاحتفال به بدعة وطقسا دخيلا على المسلمين، لكن بالنسبة للمغاربة، فالاحتفال بهذه المناسبة المقدسة، ليس وليد اليوم، بل تعود جذوره إلى عمق التاريخ.

وتعود جذور الاحتفال بعيد المولد النبوي، الذي يصادف 12 ربيع الأول من كل سنة، إلى عصر الموحدين الذين حكموا البلاد، خلال الفترة الممتدة ما بين 500 و620هـ، والذين عمدوا إلى تخليد ذكرى مولد النبي محمد عليه السلام، بهدف ردع خطر المسيحيين في الأندلس، ومنعهم من التأثير على المسلمين، خاصة وأنهم كانوا يداومون على الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، ويعظمونه في هذه المناسبة.

وكان الخليفة الموحدي المرتضى، مولعا جدا بالاحتفال بهذه الذكرى، لدرجة أنه كان “يقوم بليلة المولد خير قيام، ويفيض فيها الخير والإنعام”، والتي كان يتم خلالها نظم أشعار مدح، للتغني بالنبي عليه السلام وبخصاله وقيمه ورسالته.

وذات يوم، وقف الشاعر الأندلسي، أحمد بن الصباغ الجذامي، في حضرة الخليفة الموحدي المرتضى، وأنشد قصيدة في مدح الرسول عليه السلام، قال في مقدمتها:

تنعم بذكر الهاشــــــمــــي محمــــد

ففي ذكره العيش المهنأ والأنـــسُ

أيا شــــاديا يشدو بأمداح أحمـــــــد

سماعك طيب ليس يعقبُه نكـْــــس

فكررْ رعــاك الله ذكـــرَ محمـــــــد

فقد لذت الأرواح وارتاحت النفس

وطاب نعيم العيش واتصل المنـــى

وأقبلت الأفـراح وارتفــع اللبـــس

له جمـع الله المعانــي بأســـــرهـــا

فظاهره نــور وبـــاطنه قـــــــدس

فكل لـــه عـرس بذكـــــر حبيبـــــه

ونحن بذكر الهاشميِّ لنا عـــــرس

وتابع في أبيات أخرى من نفس القصيدة، والتي ما يزال يتغنى بها المسلمون:
وقوفا على الأقــــدام في حق سيــــد
تعظمه الأمــلاك والجن والإنــــس

وترجع أغلب المراجع التاريخية، أصل الاحتفال بذكرى المولد النبوي في المغرب، إلى منتصف القرن السابع للهجرة، حين دعى أبو العباس أحمد بن محمد العزفي، المتوفى عام 639 هجرية، إلى إحياء هذه الذكرى، في كتابه “الدر المنظم في مولد النبي المعظم”، والذي أكمله ابنه أبو القاسم، المتوفى عام 677 هجرية.

ويوضح أبو العباس العزفي في مستهل كتابه، بنبرة تغمرها الحسرة والأسى، أن أسباب دعوته إلى الاحتفال بذكرى المولد النبوي، تعود إلى مشاركة مسلمي سبتة والأندلس للمسيحيين احتفالاتهم، من قبيل عيد النيروز يوم فاتح يناير، والمهرجان أو العنصرة يوم 24 يونيو، وميلاد المسيح عليه السلام يوم 25 دجنبر، وذلك من أجل صرف المسلمين وخاصة الصبيان عن الاحتفال بأعياد ديانات أخرى، كي لا ينشأوا على تعظيم تلك الأديان.

وذكر ابن عذارى المراكشي، أن الاحتفال بالمولد النبوي، كان يتميز في عهد العزفيين (وهي أسرة كان رجالها من أعلام مدينة سبتة ورؤسائها)، بمجموعة من المظاهر الاحتفالية، حيث كان “يُطعم أهل سبتة ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت، ويمشون في الأزقة يُصلون على النبي عليه السلام”.

من جانبه، ذكر بن خلدون، أن الاحتفال بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، عرف ازدهارا كبيرا إبان فترة حكم المرينيين والوطاسيين، حيث أصدر السلطان أبو يعقوب يوسف المريني، أمرا بإحياء هذه الذكرى، واعتبارها عيدا رسميا للبلاد، شأنه شأن عيد الأضحى وعيد الفطر.

وقال ابن خلدون: “وأصبح ملوك الأندلس يحتفلون في الصنيع والدعوة وإنشاد الشعر اقتداء بملوك المغرب”، ولم يكن الاحتفال بالمولد النبوي يقتصر فقط على البلاط، بل كان حتى في الأوساط الشعبية، حيث كانت تقام الحفلات في الزوايا والمنازل.

أما في عهد السعديين، فقد بلغ الاحتفال بالمولد النبوي ذروة اكتماله، خاصة إبان حكم الخليفة المنصور السعدي؛ الذي كان يحرص على أن يكون المولد النبوي أكبر احتفال رسمي للدولة، فكان يقيم في قصره بالمدينة الحمراء عددا من الحفلات الفخمة.

وهو ما يؤكده مؤرخ المنصور عبد العزيز الفشتالي، حين قال: “والرسم الذي جرى به العمل…أنه إذا طلعت طلائع ربيع الأول… توجهت العناية الشريفة إلى الاحتفال له بما يربي على الوصف… فيصيّر الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية من المؤذنين النعارين في السحر بالأذان… حتى إذا كانت ليلة الميلاد الكريم.. تلاحقت الوفود من مشايخ الذكر والإنشاد…”.

ويضيف: “وحضرت الآلة الملوكية… فارتفعت أصوات الآلة وقرعت الطبول، وضج الناس بالتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم… وتقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشايخهم… واندفع القوم لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في مدائح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يخصها اصطلاح العزف بالمولديات نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح… وتبعث في الصدور الخشوع، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، ويتفننون في ألحانها على حسب تفننها في النظم.”

ويواصل ابن خلدون: “فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمات، تقدم أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتُري رضي الله عنه، وكلام القوم من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيتين من نفيس الشعر… هكذا كان دأبه رحمه الله في جميع الموالد، ولا يحصى ما يُوزع فيه من أنواع الإحسان على الناس”.

تعليقات( 0 )

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

مقالات ذات صلة

الأمن المغربي ينجح في إيقاف 4 عناصر موالية لتنظيم “داعش” في اشتوكة

بعد ربع قرن من الحكم..أهم المحطات البارزة في عهد الملك محمد السادس

أجواء حارة نسبيا مع سحب منخفضة بالمملكة

المناطق المتضررة بالزلزال.. بركة يعلن انطلاق أشغال تأهيل طريق وطنية بالحوز

أسعار اللحوم الحمراء.. خبير يتوقع ارتفاعات كبيرة خلال الأشهر القادمة