بقلم ابتسام مشكور
ستتجاوز تحويلات مغاربة العالم نحو وطنهم الأم حاجز 12 مليار اورو مع نهاية هذا العام، وفقًا لأرقام حديثة صادرة عن مكتب الصرف. هذا الرقم القياسي، الذي تضاعف خلال خمس سنوات فقط من 6 مليارات إلى 12 مليار أورو، ليس مجرد مؤشر جاف تقاس به المعطيات الماكرو اقتصادية، بل هو رسالة حب دافئة تكتب حكاية انتماء نادرة لوطنٍ اسمه المغرب.
تتعمق الروابط بين الوطن وجاليته، وتتزايد معها وتيرة تحويل الأموال من جيب المهاجر إلى جيب أسرته أو بنكه أو عقاره. وهكذا، أصبح المصدر الأول للعملة الصعبة في المملكة هو ذلك المغربي الذي ركب الطائرة، أو”الباطيرا” أو الحافلة، أو الباخرة يوما، وغامر للبحث عن آفاق أفضل ربما لم توفرها له المملكة الشريفة. ومع ذلك، ظل متمسكا بجذوره.
إنها ترجمة صادقة لروح “تمغربيت” التي يحملها هؤلاء المغتربون، الذين لا يعيشون في الوطن، ولا يسيرون على طرقاته، ولا يستفيدون من مستشفياته، أو مدارسه، أو مرافقه العمومية، ومع ذلك يواصلون العطاء في صمت، ويجسدون تلك الحكمة التي قالها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر: “لا تسألوا ماذا أعطاكم الوطن، ولكن اسألوا ماذا أعطيتم أنتم للوطن.”
هذا العطاء اللامحدود يستدعي من البلاد وقفة إنصاف. لقد آن الأوان أن ترد السياسات العمومية التحية بمثلها، وأن تُنصف هذا المواطن وتلتقط رسائل الملك محمد السادس، الذي دعا في أكثر من خطاب ومناسبة “كان آخرها خطاب الذكرى 25لعيد العرش” إلى ضرورة اعتناء الحكومة ووزارة الخارجية بمغاربة العالم. لهذا السبب، أحدث العاهل المغربي مؤسسة جديدة تحت اسم “المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج”، كذراع تنفيذي للنهوض بأوضاع الجالية.
وفي هذا الصدد قال الملك: “ومن أهم التحديات التي يتعين على هذه المؤسسة رفعها، تبسيط ورقمنة المساطر الإدارية والقضائية التي تهم أبناءنا بالخارج. كما نحرص أيضًا على فتح آفاق جديدة أمام استثمارات أبناء الجالية داخل وطنهم فمن غير المعقول أن تظل مساهمتهم في حجم الاستثمارات الوطنية الخاصة في حدود 10%” انتهى كلام الملك، فهل يترجمونه إلى أفعال؟
للأسف، الحقائق على الأرض تشير إلى أن السياسات العمومية تجاه المهاجرين ظلت حبيسة الحملات الدعائية لمواسم العبور “مرحبا”. ولم يتبلور إلى الآن نموذج سياسي، أو اقتصادي، أو ثقافي، أو خدماتي جديد يُنصف المواطن المغربي المقيم في الخارج، الذي لا يزال يعاني الأمرّين مع بعض الخدمات القنصلية التي تتلكأ في القطع مع نموذج التدبير الإداري السيء الذي أراد المغرب القطع معه لا من حيث جودة الخدمات أو قربها، مما يزيد في تعقيد حياة المرتفقين الباحثين عن وثيقة إدارية بسيطة!
على امتداد القارات الخمس، يعيش أكثر من ستة ملايين مغربي يحملون وطنهم في قلوبهم، ويدعمونه بأموالهم وارتباطهم العاطفي. ومع ذلك، لا تزال السياسة العمومية تجاههم غائبة أو قاصرة، وكأن هذا الشعب المهاجر جزء هامشي من معادلة الوطن. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تدرك الحكومة أن مغاربة الخارج يمثلون طاقة اقتصادية واجتماعية وسياسية ضخمة، وأن إهمالهم يُعد تفريطًا في مورد لا يقل أهمية عن الثروات الطبيعية؟ للنهوض بهذا الملف، لا بد من مقاربة واضحة وجريئة تعالج جذور الإشكالات القائمة:
1- إصلاح منظومة التواصل: المغربي المقيم بالخارج لا يطلب المستحيل، بل يريد معلومة دقيقة وواضحة حول القوانين، والمساطر الإدارية، والخدمات التي تخصه وعائلته، والمطلوب سياسة تواصلية شفافة وفعالة، تتجاوز الأسلوب البيروقراطي التقليدي، وتستخدم أدوات حديثة ومباشرة قادرة على بناء الثقة بين المواطن وإدارته.
2- تبسيط الإجراءات وتوحيدها ورقمنة باقي القنصليات: فرغم دورها المحوري، ما زالت بعض القنصليات تمارس عملها بمنطق بيروقراطي متقادم، آن الأوان للقطع معه بإدخالها في العصر الرقمي، وتبسيط الإجراءات الإدارية والقضائية وتوحيدها “كما جاء في الخطاب الملكي” لتصبح في مستوى تطلعات مغاربة العالم.
3- إشراك سياسي حقيقي: إن الحديث عن المغتربين يظل قاصرا دون التطرق لحقهم في اختيار ممثلين عنهم في المؤسسات التشريعية المنتخبة. هؤلاء الممثلون يجب أن يكونوا لسان حال الجالية ينقل همومهم، ويطالب بحقوقهم،أمام الأجهزة التنفيذية للدولة ويجعلها جزءًا من النقاش الوطني. لأن تهميش المهاجر سياسيا ليس مجرد تقصير، بل خسارة لفرصة دمج قوة اجتماعية قادرة على إحداث فرق.
4- إعادة توجيه الاستثمارات: يحول مغاربة العالم سنويا مليارات الدولارات إلى وطنهم، لكنها غالبا ما تُجمد في عقارات غير منتجة، أو تبقى أرصدة جامدة في بنوك يستفيد منها كبار رجال الأعمال فقط. المطلوب هو فتح آفاق جديدة للاستثمار في قطاعات إنتاجية، مثل الصناعة، التجارة، البورصة، والخدمات، مع تقديم الدعم المعلوماتي والقانوني اللازم لتحفيز المهاجر على الاستثمار بأمان وثقة.
الحكومة اليوم أمام اختبار حقيقي، مغاربة الخارج لا يطلبون الصدقة، بل الاحترام والتقدير. ذكاؤهم، خبراتهم، وإمكانياتهم المالية ثروات لا يمكن إهمالها، خاصة في وقت يسعى فيه المغرب إلى تنويع موارده الاقتصادية لتحقيق نموذجه التنموي.
شعب المهاجرين مافتئ يبرهن كل يوم عن تعلقه بملكه ووطنه وعَلَمه ودرهمه ومؤسساته، وعلى الحكومة أن تبرهن بدورها عن اهتمامها بهذا المواطن المغترب كشريك حقيقي، وتحترم كرامته وتنصت له، كما يقول المغاربة في مثلهم الدارج: “فهمونا ولا تعطيوناش”، فما بالك إن كان العطاء منهم؟