بقلم: عثمان بن شقرون
يُعدُّ الطرب المغربي الأندلسي من أعرق التقاليد الموسيقية في المغرب، وقد نشأ في سياق ثقافي ممتد منذ العهد الأندلسي، وتوارثته الأجيال ضمن نسق دقيق من النوبات والمقامات والأعراف والطقوس المصاحبة. وكان الشيخ أو المعلم، يمثل في هذا الطقس الركن المعرفي والفني، إذ يجمع بين القيادة الموسيقية وحفظ السند الشفوي وضبط الأداء الجماعي.
وفي ظل الاهتمام المتزايد بهذا الفن، سواء على صعيد البحث الأكاديمي أو إحياء الطقوس، تبرز مفارقات جديرة بالتأمل. لا يقتصر الحديث هنا على تاريخ النوبات أو الطبوع والمقامات، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق وأخفى، يتعلق الأمر بطقوس الأداء نفسها، والتحولات التي طرأت عليها اليوم.
هذا الطرب، الذي يظل طقساً موسيقياً وروحياً يعبر عن ذاكرة جماعية وروح الانتماء، يشهد انزياحاً رمزيًا في بنيته الاجتماعية والطقسية. فقد تحول «كرسي الشيخ» في الحلقة من مجرد مكان إلى رمز لصراع بين الأصالة والوجاهة، بين الفن والسلطة الاجتماعية، ليصبح عرضًا للهيمنة والتمثيل الطبقي أكثر منه طقساً روحياً جماعياً.
من خلال قراءة سيميولوجية، يكشف هذا المقال كيف أن هذه التحولات، رغم تصنيف بعضها كبدع غير مألوفة، تعكس تحولات أعمق في علاقتنا بالتراث، وفي تمثلنا للذات داخل هذا الطقس العريق.
حين يتحوّل الكرسي إلى علامة فارغة:
من الظواهر الطارئة على أداء الطرب الأندلسي المعاصر، ما يمكن تسميته بـ”الاستحواذ الرمزي على الطقس”. ففي بعض الفضاءات الخاصة التي يُعاد فيها إحياء هذا الفن، نلاحظ أن بعض الشخصيات من الوجهاء، أو ممن يقدّمون أنفسهم كذلك، رغم أنهم لا ينتمون إلى الفرق الموسيقية ولا يمارسون العزف أو الإنشاد، ينصبون أنفسهم في مركز الحلقة، حيث يجلس عادة الشيخ أو قائد الفرقة. هذا الجلوس لا يُستمد من سند معرفي أو كفاءة فنية، بل من رأسمال اجتماعي واقتصادي صرف.
في الطقس الأصيل للطرب الأندلسي، لم يكن الكرسي في مركز الحلقة مجرد قطعة أثاث، بل علامة محمّلة بدلالة رمزية: إنه دالّ بصري على المدلول المعرفي والفني، وتجسيد لسلطة الشيخ بوصفه حاملًا للذاكرة الشفوية، ووريثًا لسلسلة متصلة من السند الموسيقي. بهذا المعنى، يرمز الكرسي إلى مركز الثقل الفني وقيادة الأداء، لا إلى وجاهة فردية.
لكن حين يُفرّغ هذا الدالّ من مدلوله الأصلي، ويُعاد شحنه بدلالة جديدة تُحيل إلى المال أو السلطة الاجتماعية، نكون أمام تحوّل سيميولوجي جذري: من مركزية العلم إلى مركزية الامتلاك، ومن الطقس الجماعي القائم على المشترك الروحي إلى مشهد استعراضي فرداني تُهيمن فيه الذات المتضخّمة. بهذا، تتحول العلامة إلى ما يسميه رولان بارث “علامة فارغة” تُستخدم لإنتاج أسطورة معاصرة: أسطورة الجمع بين التراث والمكانة الاجتماعية، ولو على حساب الجوهر الفني والمعرفي.
الطقوس كواجهة اجتماعية
لم يعد الانزياح مقتصرًا على “كرسي الشيخ” وحده، بل طال بنية الطقس كاملة، في دلالتها الجماعية والروحية. فاللحظة التي كانت تنشد فيها الجماعة نوعًا من الوجد المشترك، في انصهار شعوري وصوتي بين المنشدين والجمهور، تحوّلت اليوم إلى عرض مقنّن، يخضع لمنطق التنسيق الفائق، والإضاءة الاصطناعية، والتوثيق البصري المدروس.
في قلب هذا التحول، لم تعد الطقوس مجالًا لتجربة جماعية متجاوزة للذوات، بل واجهة اجتماعية تُستدعى فيها الرموز الفنية لتزيين لحظة هيمنة محكومة بالتمثيل الطبقي. تُجرّد الجماعة، التي كانت حاملة للذاكرة والوجدان، من وظيفتها التشاركية، لتصبح خلفية بشرية تُكمّل المشهد. أما المنشدون، فتنقلب أدوارهم من وسطاء وجْد إلى مؤدّين مأجورين، يؤثثون مشهدًا استهلاكيًا فاخرًا. الطرب نفسه يُفرّغ من كثافته التاريخية والروحية، ويُعاد إنتاجه كسلعة ثقافية مرموقة، لا تختلف – في رمزيتها – عن كؤوس الكريستال أو الأرائك المزخرفة ونقوش الجبس والزليج على الجدران.
بهذا المعنى، يتحول الطرب المغربي الأندلسي إلى وسيلة من وسائل التمايز الاجتماعي، أداة لـ”عرض المكانة” على حد تعبير بيير بورديو. فحضور هذا الفن لا يُستدعى باسم الذاكرة أو الذوق الجماعي، بل باسم الذوق الخاص والهيبة الطبقية، ليُصوَّر ويُوثَّق، ويُنشر كدليل على الترف الثقافي والهيمنة الرمزية.
ذات متضخمة في مركز مشهد لا تصنعه
في قلب هذا التحول، تتجلى ظاهرة الذات المتضخمة كعلامة سيميولوجية حاسمة. هذه الذات التي ترفض البقاء على هامش الطقس، حتى وإن لم تكن مُتمكّنة من أدواته ولا تجيده فعليًا، تُصر على احتلال مركز الحلقة. إنها ذات لا تساهم في خلق الجمال أو إنتاج الأداء الموسيقي، ولا تمسك بعود أو دف أو ناي، لكنها تستمد سلطتها من موارد خارج نطاق الفن، من المال والوجاهة الاجتماعية.
تتكشف هنا مفارقة عميقة، فالمكان الذي كان يُمنح للشيخ بفضل معرفته العميقة وخبرته الفنية، يُستبدل الآن بمن يملك المال ورمزيات الترف، في حين يخفت صوت من يحمل وجد الجماعة وتراثها الحي، ويُرفع نخب “الراعي الرسمي” الذي يُمثل القوة الاقتصادية والاجتماعية، لا الثقافة أو الفن.
هذا الانزياح لا يعكس فقط تغييرًا في ترتيب المقاعد، بل تحولا رمزياً يعيد تشكيل سلطة العلامة داخل الطقس، من سلطة المعرفة الفنية إلى سلطة المال والتمثيل الاجتماعي. إنها لحظة تنكشف فيها الذات ليس كفاعل أصيل في إنتاج الجمال، بل ككائن يستولي على المشهد ويُعيد تعريفه وفق مصالحها ورغباتها الخاصة.
من الطقس إلى العرض، ومن الجماعة إلى الفرد
لقد انتقلنا إذن من منطق الطقس، الذي يقوم على المشاركة والرمزية والاتصال بالزمن العميق، إلى منطق العرض، الذي يقوم على الفرد والمال والسطح. ومن تصور التراث كهوية جماعية حية، إلى تصوره كـ”خدمة فنية” تُستقدم حسب الطلب، وتُقدّم حسب الذوق الخاص. إن الأمر في جوهره، ليس مجرد بدعة في ترتيب الكراسي، بل علامة على نزعة ثقافية أخطر: نزعة تحويل التراث إلى ملكية خاصة، وتفريغه من بعده الجماعي والرمزي. نحن لا نعيد إحياء الطرب الأندلسي، بل نحوله إلى عشاء فاخر بصوت رخيم، وإلى صورة سننشرها لاحقًا على إنستغرام والفيسبوك لنقول: كنّا هنا، وسط الفن والتاريخ.
ختامًا:
ما يحدث ليس مجرّد انزياح عن الأصول، بل انزلاق نحو التفاهة الرمزية. فالكرسي في وسط الحلقة ليس تفصيلاً عابرًا. إنه علامة. ولما تُختطف العلامة، تُختطف معها الذاكرة، ويُفرّغ المعنى من محتواه، ويُختزل الطرب في ما يُرضي ذاتًا لا تسمع إلا صداها.
لقد سعينا في هذه القراءة المتواضعة إلى مساءلة لحظة ثقافية تنطوي على تحوّل رمزي عميق. إن ما رصدناه هنا ليس حدثًا عرضيًا، بل تجلٍّ لمخيلة اجتماعية جديدة تُعيد تشكيل علاقتها بالتراث والرموز والهوية. لذلك، فإن ما يبدو في الظاهر مجرد شأن بسيط في ترتيب الكراسي، ليس إلا مرآة لتحولات أعمق وتجليا لانقلاب في منظومة الرموز والمعاني، تُقاس بمدى احتفاظنا بجوهر الطقس، لا بمظهره فقط.