بقلم: محمد حفيظ
انتشر، منذ أول أمس، على وسائل التواصل الاجتماعي فيديو لوزير الداخلية عبد الوافي لفتيت. الفيديو ينقل جزءا من تصريح الوزير أمام لجنة الداخلية والجماعات الترابية بمجلس النواب، مساء الأربعاء 05 نونبر 2025، خلال مناقشة مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الداخلية برسم السنة المالية 2026.
يظهر وزير الداخلية، في لقطة قريبة، وهو يدعو كل من ترامى على أراضي الغير أو استولى بشكل غير قانوني على أراض تابعة للجماعات الترابية أو اختلس أموالا عامة، إلى أن يُرجع ما أخذه بغير وجه حق. وتوعد الوزير كل من لم يقم بإرجاع ما استولى عليه أو اختلسه بالمحاسبة.
إن ما جاء على لسان وزير الداخلية يرتبط بمطلب قديم، رُفِع بالمغرب منذ زمان، وظل المطالبون بحماية المال العام يرفعونه، كلما تفجرت قضية من قضايا اختلاس المال العام أو نهبه أو تعريضه لمختلف أشكال الاعتداء. إنه مطلب “استرجاع الأموال المنهوبة”، الذي يُعتبر من أبرز مطالب الحركة الحقوقية والمدنية بالمغرب منذ عقود.
وكلما احتد النقاش حول الفساد ونهب المال العام والإثراء غير المشروع، يعود هذا المطلب إلى الواجهة؛ إذ لا تكفي معاقبة المختلسين والناهبين بعقوبات سجنية وحرمانهم من الحرية، ليتحقق الإنصاف أو جبر الضرر الذي يلحق بالمجتمع، لأن جوهر العدالة الاقتصادية يقتضي أن يُعادَ المال المسروق إلى إصحابه.
وزير الداخلية بدأ وعيده بالقول: “بغيت نوصل واحد الميساج”. إذن، جاء ليوجه رسالة. وبعدما انتشر الفيديو، عرفنا مضمون الرسالة، وعرفنا مرسِلَها. وبقي المرسَلُ إليه(م) غير معروف(ـين)، أو بالأحرى غير محدد(ـين) في كلام الوزير، وإن كان المعهود أن المرسِلَ يَعرِفُ المرسَلَ إليه. لقد اكتفى الوزير بالإشارة إلى المرسَلِ إليه باسم الموصول (اللي) الذي يقابل في العربية الفصحى، في السياق المستعمَل فيه، اسم الموصول (مَنْ).
وسأنقل، هنا، بالحرف “ميساج” وزير الداخلية كما نطق به بالدارجة. قال: “اللي دَّا شي طرف ديال الأرض لشي مشروع اللي كان مخصص لشي حاجة راه ماغنتفرقوش معاه.. وغنرجعو للماضي كامل نتحاسبو مع الناس. باش نكونو واااضحين: اللي دَّا شي طرف دْ الأرض اللي ماشي من حقو خصو يردها، ومن الأحسن يردها قبل ما نوصلو معاه..، لأننا غنوصلو لخْزِيتْ -باش نهضرو بالهضرة ديال الدارجة- اللي دَّا شي طرف دْ الأرض اللي ماشي ديالو، اللي تترجع للجماعة، ولَّا اللي دَّا شي درهم ماشي ديالو، من الأحسن لُو يردو.. راه فالدار البيضاء راه بدينا مع مجموعة دْ الناس.. وحنا غنمشيو حتى الأخير.. اللي دَّا شي درهم ديال الجماعات الترابية اللي ماشي من حقو يْدِّيها من الأحسن لُو يردها. يردها بالخاطْر آمين، يردها بْزّز غَيْرْدها بْزّز.. ما كاينش متر واحد مربع اللي يبقى فشي موضع ولا فشي طريق ولَّا يتم الاستحواذ عليه.. راه ما كايناش.. راه غنتحاسبو.. راه كاين الناس اليوم خدامين فالدار البيضاء وغيخدمو فمدن أخرى.. كنقول ليكم: اللي دَّا شي طرف دْ الأرض أو دَّا شي درهم من الأحسن لِيلُو يردها عن طيب خاطر، وإذا ما ردهاش عن خاطر غَيْرْدها، كِيفْ كنقولو، بْزّز منو”.
هذا الكلام الذي لجأ فيه الوزير إلى أسلوب التأكيد، باعتماد التكرار وتشديد النبرة الصوتية، لم يتجاوز في حيزه الزمني دقيقة واحدة و15 ثانية. وكان “الميساج”، في هذا الحيز الزمني، واضحا لمن يهمهم الأمر: التحذير والوعيد، والتخيير بين إرجاع ما اختلسوه ونهبوه وبين المحاسبة.
لكن وزير الداخلية لم يتوقف عند ما قاله في هذا الحيز الزمني. فقد أعقب تحذيرَه ووعيدَه وتخييرَه بتوضيحات جعلت الأمر يتعلق بـ”ميساج” آخر، قد يكون موجَّها إلى مرسَل إليهم آخرين.
التوضيحات ظهرت كما لو أنها تريد “تبريد” الحرارة التي اتسم بها التحذير والوعيد، شكلا ومضمونا. ويظهر من الفيديو أن الوزير أنهى موضوع “الميساج”، لكنه سيرجع إليه بعدما سُمِعت أصوات من الاجتماع ربما تفاعلت مع تحذيره، فلجأ إلى التعليق الفوري على ما قاله.
ويبدو أن الوزير لم يكن مهيأ ليتحول إلى معلق على رسالته مباشرة بعدما وجهها. ويكفي أن نقارن بين المقطع الذي تكلم فيه لتبليغ “الميساج” الذي أراد أن يوصله، والمقطع الذي لجأ فيه إلى توضيح الوعيد والتحذير، لنلاحظ الفرق بينهما من حيث القوة الإنجازية. ففي المقطع الثاني، لم يجد السيد عبد الوافي لفتيت الكلمات المناسبة، كان يتلعثم ويتعثر في الكلام، وكان يبحث عن المفردات المناسبة ليوضح أنه يستثني من كلامه كثيرين لا يدخلون في خانة المعنيين بـ”ميساجه” (من نعتهم بالأتقياء والأنقياء والنزهاء)، خلافا للمقطع الأول الذي انساب فيه الكلام من فمه بكل تلقائية، واستعمل كلمات بالدارجة المغربية، كانت دالة ونافذة، مثل “خْزِيتْ” و”بْزّزْ”، دون أي تلعثم أو تعثر.
لم يكن هناك أي داع لإشهار هذا النوع من “الاستثناء”. فليس مطلوبا منا كلما واجهتنا قضايا اختلاس المال العام ونهبه مِن طرف مَن يتولون مسؤولية تدبير شؤون المواطنين، في هذا القطاع أو ذاك، وفي هذه المؤسسة أو تلك، أن نسارع إلى الاستدراك بالقول إن الأمر يتعلق بأشخاص يمثلون “قلة قليلة بزاف، ويُعَدُّون على رؤوس الأصابع”، كما جاء على لسان وزير الداخلية في “ميساجه” الثاني.
وحتى هذا الاستدراك لم يكن متناسبا مع مضمون “الميساج” الذي تولى وزير الداخلية إبلاغه. ففيه تقليل مبالغ فيه من حجم ما يجري في الواقع. فإذا كان الوضع هو ما أخبر به الوزير، أي أن المختلسين يُعَدُّون على رؤوس الأصابع، فما الداعي إلى كل هذا التحذير والوعيد والتهديد؟! وما الداعي إلى هذه الرسالة التي اختار وزير الداخلية اجتماع لجنة الداخلية والجماعات الترابية لإرسالها، ونحن على بعد أشهر من الانتخابات؟!
لم يكن هناك أي داع ليحاول وزير الداخلية تبريد ما قاله أو تبريره. فالواقع كما نعيشه لا يرتفع، والوقائع كما يعاينها المغاربة تعرفها وزارة الداخلية حق المعرفة. وربما يبدو أن السياق الحالي الذي عاد فيه شعار “محاربة الفساد” هو الذي كان وراء هذا “الميساج” الذي يحذر ويتوعد من يستغلون مواقعهم الانتدابية للاستيلاء على أراضي الجماعات الترابية واختلاس المال العام.
وأختم بهذين السؤالين اللذين يثيرهما “ميساج” وزير الداخلية:
ألا تعرف وزارة الداخلية المنتخبين الذين استولوا على الأراضي أو اختلسوا المال العام، حتى تلجأ إلى الانتظار إلى أن يتفضل المختلسون والناهبون بإرجاع ما اختلسوه ونهبوه “عن طيب خاطر”، بتعبير الوزير؟!
وهل على وزارة الداخلية أن تُخَيِّر هؤلاء المختلسين والناهبين بين “الخاطْر” و”بْزّزْ”: إما أن يُرجعوا ما اختلسوه ونهبوه “بالخاطْر”، وإما أن يتم إرجاعه منهم “بْزّزْ”؟!
إن وزارة الداخلية لها من الوسائل القانونية والإمكانات التقنية والموارد البشرية ما يُمَكِّنها من معرفة كل من استغل مسؤوليته بالجماعات الترابية للنهب والسرقة والاختلاس، ولها من الوسائل والإمكانات والموارد ما يجعلها تعرف من يغتني اغتناءً غير مشروع، ويتاجر في أموال المغاربة، وفي أمتار المغرب. وأي تقاعس أو تأخر في التدخل لحماية الأموال العامة والممتلكات العامة واسترجاعها لا يعفيها من تحمل المسؤولية.
وفي جميع الأحوال، لا نتمنى أن يتحول تعليق السيد وزير الداخلية على “ميساجه” إلى تعليق له. ولنا، في التاريخ القريب، سوابق مع مثل هذه “الميساجات”.

