لم يكن المصور الإيطالي المقيم في فرنسا، نيكولا فيورافانتي، يبحث عن صورة بقدر ما كان يسعى لفهم بلد أدرك أنه لا يكشف أسراره دفعة واحدة، بل يبوح بها رويدا رويدا لمن أتاه بنية صادقة. ومن شذرات الضوء، وعفوية اللحظات اليومية، والروابط الإنسانية الصادقة، نسج تجربة فوتوغرافية أطلق عليها “المغرب، أطلس عاطفي”؛ التي تتجاوز التوثيق البصري لتلامس جوهر هذا البلد، الذي لا يعتبره مجرد مكان يُصوَّر بل يُعاش، وألوانه لا تُرى فقط بل تُحسّ، وصوره ليست مجرد لقطات، بل تجليات لحب مزدوج بين زوجته المغربية، والوطن الذي أعاد تشكيل نظرته… وجعله مغربيا أيضا.
وكشف نيكولا فيورافانتي في هذا الحوار الذي أجراه مع موقع “سفيركم” الإلكتروني، عن تفاصيل معرض “المغرب، أطلس عاطفي” الذي قدمه بمدينة باليرمو الإيطالية، خلال الفترة الممتدة من 16 أبريل إلى 22 ماي، وعلاقته بالمغرب، وكذا الدور الذي لعبته زوجته المغربية في توسيع رؤيته وفهمه العميق للثقافة المحلية، كما توقف عند فلسفته في التقاط الصور، واختياراته الجمالية، وأثر اللحظات العفوية على فنه، بالإضافة إلى رمزية بعض الصور التي اختزنت قصصا إنسانية مؤثرة، ناهيك عن مشاريعه المستقبلية، ورغبته في تعلم الدارجة المغربية، فضلا عن نصائحه للمصورين الراغبين في زيارة المغرب.

وهذا نص الحوار الذي أجراه موقع “سفيركم” مع نيكولا فيورافانتي:
في البداية، من هو نيكولا؟
نيكولا هو شخص يسعى لترك أثر جميل في هذه الحياة. لا يهمه كثيرا أن يُحدث ضجيجا، بقدر ما يهمه أن يترك أثرا خالدا، وصادقا، وربما ملهما للآخرين.
كيف تبلورت لديك فكرة معرض “المغرب، أطلس عاطفي”؟
تكونت فكرة “المغرب، أطلس عاطفي” بشكل طبيعي وتدريجي مع مرور الوقت. كانت نقطة التحول في سنة 2019، عندما عدت إلى المغرب بنظرة أكثر نضجا ووعيا. في تلك المرحلة، كنت قد جمعت بالفعل عددا من الصور، لكنها لم تكن جزءا من مشروع محدد، بل لقطات عفوية، التقطتها بدافع غريزي، دون أي نية لتوثيق شيء بعينه. كانت صورا حرة، لكنني أدركت أنها، بمفردها، لا يمكن أن تعكس تعقيد بلد غني ومركب كالمغرب.
تلك الرحلة أثارت في داخلي رغبة عميقة، بل تكاد تكون حتمية، لفهم هذا البلد عن قرب بشكل أكثر عمقا وإنسانية، لكن تفشي الجائحة حال دون السفر لفترة طويلة. وعندما عدت في سنة 2022، بدأت أراجع الصور التي التقطتها خلال رحلاتي السابقة، شيئا فشيئا، بدأت أرى في تلك الصور شذرات متفرقة، لكنها مترابطة، وكأنها خريطة وجدانية تشكلت من خلال الحب.
وكان لزوجتي دور محوري في هذه الرحلة. فحبي لها، ومن خلالها حبي للمغرب، فتح عيني على تفاصيل دقيقة ربما كنت سأغفلها لولا هذا الارتباط. ومن هنا، بدا لي أن تسمية المشروع بـ”المغرب، أطلس عاطفي” لم تكن خيارا فنيا فقط، بل وصفا صادقا لما شعرت به.
ما هي المشاعر التي أردت أن توصلها للناس عند مشاهدتهم للمعرض؟
أردت أن يعيشوا التجربة اللونية كما أعيشها أنا هنا. في المغرب، اللون لا يُشاهد فقط، بل يُحسّ، حيث أنه حاضر في المعمار، والأسواق، والملابس وحتى في الصمت، فهناك بُعد شبه روحي للألوان، وكأنها تروي شيئا أعمق.
ما حاولت فعله هو نقل هذه العلاقة، وأن أُظهر كيف يتحول اللون من مجرد عنصر بصري إلى تجربة حسية داخلية، وحالة شعورية حقيقية وصوفية.


ما الذي يجعل المغرب ملفتا بصريا بالنسبة لك كفوتوغرافي مقارنة بباقي البلدان التي زرتها؟
ما يلفتني بصريا في المغرب هو العفوية التي تتكون بها المشاهد اليومية: عناصر قد لا تبدو منسجمة للوهلة الأولى، لكنها تلتقي بشكل طبيعي لتخلق توازنا لونيا فريدا يصعب تفسيره. هناك حس جمالي حاضر في كل التفاصيل، كأن المكان يمتلك وعيا لونيا خاصا به. ورغم أنني سافرت كثيرا، إلا أنني لم أصادف بلدا يمتلك هذا المستوى من الإدراك البصري تجاه اللون كما هو الحال في المغرب.
في الحقيقة، أدركت هذا منذ بداياتي الأولى في التصوير. لم تكن لدي آنذاك طموحات فنية كبيرة، كنت فقط أحاول أن أفهم العالم من حولي، وربما أن أفهم نفسي من خلاله. لذلك، عندما بدأت أولى خطواتي في التصوير، شعرت أن المغرب هو المكان الأنسب للبدء، لم يكن الأمر قرارا عقلانيا بقدر ما كان إحساسا داخليا… شعور بأن هذا المكان هو نقطة الانطلاق التي كنت أبحث عنها دون أن أعرف.
ذكرت في حوار سابق مع وكالة المغرب العربي للأنباء أن “المغرب يبدو كما لو أنه مرسوم وليس مُصوّر”، ماذا كنت تقصد بذلك؟
أقصد أنني لا أعد المشهد، صوري كلها عفوية تماما، لا يوجد فيها أي إعداد مسبق، كل شيء يحدث أمامي بعفوية وتلقائية، وأنا لا أتدخل سوى بالانتباه. وهذا بالضبط ما يجعل المغرب مهما جدا بالنسبة لي، فهو يمنحك صورا جاهزة، طبيعية، ومليئة بالجمال غير المصطنع. اللحظة هنا تُبنى لوحدها، دون الحاجة إلى الإخراج أو التدخل، دوري فقط أن أكون يقظا، بكامل حواسي، لألتقطها.

صورك تشمل مدنا كبيرة وقرى صغيرة، كيف اخترت الأماكن واللحظات التي التقطتها؟
غالبا ما أختار الأماكن التي أُصوّر فيها بناءا على قصص، وصور، وملاحظات يشاركها معنا أصدقاؤنا المغاربة، إضافة إلى قراءاتي المستمرة للنصوص والمراجع التي أستعين بها لتوسيع رؤيتي وفهمي للبلد.
بطبيعتي، لا أخرج للتصوير خلال ساعات النهار التي تكون فيها أشعة الشمس قاسية، بل أفضل الانتظار حتى تبدأ الشمس في التراجع، عندما يصبح الضوء أكثر نعومة، ويمنح كل شيء حوله طابعا مختلفا، أكثر شاعرية وعمقا.
المغرب كريم في ما يمنحه للمصور، كل ما علي فعله هو أن أتبع الضوء، وأن أبقى حاضرا ومستقبلا لكل ما قد يكشفه لي المكان.
ما هي الصورة التي ترى أنها تعكس جوهر المغرب أكثر من غيرها؟ ولماذا؟
نعم توجد صورة التقطتها في مدينة الراشيدية، لسحابة فوق ساحة مفتوحة تقام فيها صلاة العيد، وكانت رؤية سحابة بهذا الشكل في تلك المنطقة الصحراوية أمرا نادرا ولحظة استثنائية.
لكن ما منح الصورة بعدا آخر هو ما علمته لاحقا من الساكنة: أن المكان شهد فاجعة في الماضي، وأنهم طَلَوا جزءا من الجدار بالأبيض كرمز للأمل. كانت الصورة بالنسبة لهم بشارة خير وعلامة على بداية جديدة، حيث أن بعضهم عاد للمكان بعد انقطاع طويل فقط بسبب تلك الصورة. لم أكن أعلم حينها حجم رمزيتها، لكنني أدركت بعد ذلك أن الصورة أحيانا تكون أقوى من أن تُفهم بالمنطق فقط.

لهذا المشروع بعد شخصي أيضا خاصة وأن زوجتك مغربية، كيف أثرت هذه العلاقة على طريقتك في تصوير المغرب؟
أعتبر هذا المشروع تعبيرا مزدوجا عن الحب!
فكل يوم أعيشه في المغرب، أقترب أكثر من فهم زوجتي وجذورها، وثقافتها، وتلك التفاصيل الصغيرة التي شكلت شخصيتها. وفي نفس الوقت، أشعر بأن علاقتي بالصورة بدأت بدورها تتغير، حيث أصبحت مغربية، وأكثر قربا من روح المكان، من طريقته في التعبير عن نفسه. فلم أعد مجرد ملاحظ خارجي، شيء ما يتغير بداخلي… أشعر بأنني أصبحت مغربي.
زيارتك الأولى للمغرب كانت عام 2010، ما سر عودتك إليه بعد كل هذه السنوات؟
كانت زيارتي الأولى للمغرب في سنة 2010، لكنها لم تكن زيارة عابرة. شعرت منذ البداية بأن هناك شيئا خاصا يربطني بهذا المكان، حتى إنني لم أنقطع عنه على المستوى الشعوري، رغم غيابي لسنوات.
عدت بعد نحو عقد من الزمن لأشارك في ورشة تصوير، لكنها لم تكن مجرد التزام مهني، بل فرصة لاستئناف علاقة لم تنقطع في داخلي. وما تغير مع الوقت هو عمق هذا الارتباط، ففي السابق، كنت أشعر بالارتياح هنا، أما اليوم، فأشعر بانتماء حقيقي.
لم يعد المغرب مجرد مكان أزوره… بل مكان أشعر أنه وطني.

هل هناك ذكريات معينة من لقاءاتك بمواطنين مغاربة بقيت محفورة في ذاكرتك؟ وأثرت فيك سواء على المستوى الفني أو الشخصي؟
الأمر ليس مرتبطا بلقاء واحد فقط، بل بتجربة كاملة مع الحياة اليومية في المغرب، هناك نوع من الشعر الصامت الذي يسكن التفاصيل العادية هنا، ويجعل كل ما هو يومي وعادي يبدو أكثر عمقا مما هو عليه.
لدي أصدقاء مغاربة كُثر، وكل واحد منهم أثر في بطريقة ما، لذلك يصعب أن أختزل الأثر في شخص واحد فقط.
ما يمكنني قوله هو أنني تعلمت من خلالهم كيف أنظر إلى الأشياء البسيطة بنظرة جديدة فيها حضور حقيقي، ودفء إنساني، ودهشة لا تنتهي. وهذا، في نظري، أجمل هدية جاد علي بها المغرب.
هل بدأت في تعلم الدارجة؟ وما هي الكلمات أو العبارات المغربية المفضلة لديك؟
نعم، بدأت بالفعل في تعلم الدارجة، وكان ذلك أمرا طبيعيا بالنسبة لي، فهو وسيلة لتعميق علاقتي بالمغرب وبالناس الذين استقبلوني بكل هذا الكرم والود.
اللغة لا تسمح لك بالتواصل فقط، بل تفتح أمامك أيضا أبواب الشعور والانتماء، وهذا ما وجدته في الدارجة، لا سيما وأنها مليئة بالتعبير، والإحساس، وإيقاع الحياة اليومية.
ومن العبارات التي أحبها كثيرا: “بالسلامة”، و”صافي”، و”ماشي مشكل”، “يلاه”، “كلشي مزيان”، و”بنين بزاف”، وهذه العبارة الأخيرة مميزة جدا، فكلما قيلت، سواء أثناء الأكل أو في لحظة فرح، ترسم ابتسامة حقيقية.
هذه العبارات لا تُستخدم فقط للتواصل، بل تُقال بحمولة عاطفية ووجدانية، فيها لحن، ودفء، وروح تعبيرية غنية يصعب شرحها لمن لم يعشها، وهذا ما يجعلني أجد الدارجة جميلة جدا.
هل تحضر لمشاريع فوتوغرافية مستقبلية قد تشمل المغرب؟
المغرب، أطلس عاطفي ” ليس مجرد مشروع له بداية ونهاية، بل هو مسار حياة، سيستمر في التطور معي ومع تجربتي.
وفي الوقت نفسه، هناك مشروعان آخران قيد التحضير، لهما جذور في المغرب، يحملان رؤى مختلفة، وأُفضل أن أترك لكل مشروع مساحته الخاصة لينضج مع الوقت. لست في عجلة من أمري، فالأشياء الجميلة تأتي ببطء وفي وقتها المناسب.

وفي الأخير، ما هي النصيحة التي ترغب في تقديمها للمصورين الراغبين في سرد قصص صادقة من المغرب؟
أقول لكل مصور، خذ وقتك، وتعامل بتواضع، فالمغرب ليس بلدا يمكن فهمه كاملا في زيارة واحدة؛ بل يكشف عن أسراره رويدا رويدا، ومرحلة بعد الأخرى. استمع أكثر مما تتكلم، وراقب أكثر مما تصور، وابنِ علاقات حقيقية، كن حاضرا بكل جوارحك، وابقَ يقظا ومتأهبا لأي لحظة، احترم الناس، والأمكنة، واحترم الصمت. والأهم من كل ذلك، لا تأتِ وفي جعبتك قصة أو صورة جاهزة؛ دع القصة هي التي تجد طريقها إليك. وإذا كانت نواياك صادقة، ستندهش بكرم هذا البلد وجمال ما يجود به عليك.