إسماعيل الحسني: الإحالة الملكية لمدونة الأسرة تفعيل حي لإمارة المؤمنين (حوار)

بدأت مراجعة مدونة الأسرة في شهر شتنبر الماضي وفق مقاربة تشاركية شمولية، بأمر من عاهل البلاد، لتجاوز كل ما يعتري مدونة الأسرة من ثغرات وصعوبات على مدى 20 عاما من التطبيق العملي وما يفرضه الواقع من مستجدات، من خلال إعادة النظر في مدونة الأسرة، عبر عدد من الهيئات التي شملت المجلس العلمي الأعلى والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والنيابة العامة ووزارة العدل ووزارة الأسرة والتضامن والمجلس الأعلى للسلطة القضائية تحت إشراف رئاسة الحكومة.

وعملت هذه الهيئة على إعداد مقترحات وتعديلات بخصوص المدونة ذاتها، بعد مشاورة مع كافة المتدخلين وأخذ وجهات نظر جميع الأطراف، وبعد رفع هذه المقترحات للملك، قرر إصدار توجيهاته للمجلس العلمي الأعلى قصد دراسة المسائل الواردة في بعض مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ومقاصده السمحة في رفع فتوى بشأنها للنظر السامي لجلالته.

للاقتراب أكثر من الموضوع، نطرح مجموعة من الأسئلة على الدكتور إسماعيل الحسني؛ أستاذ التعليم العالي مقاصد الشريعة الإسلامية بجامعة القاضي عياض بمراكش.

في هذا الحوار، مع موقع “سفيركم”، يوضح الأستاذ إسماعيل الحسني دلالات إحالة الملك لمدونة الأسرة على المجلس العلمي الأعلى كمؤسسة تعنى بالفتوى، ويبرز ما يفرضه الواقع المعاصر من تحديات على الأسرة الراهنة، وكيف يمكن أن يقطع المجلس العلمي الأعلى الطريق على الوصولين والأنانين في تقديم اجتهاد منفتح مؤسس على مقاصد الشرع، بما يحقق مصلحة البلاد والعباد.

-بداية، ما أهمية هذه الخطوة في مسار تطوير مدونة الأسرة؟

تنبع أهمية هذه الخطوة من رغبة حثيثة وواقعية من الملك، في الحسم العملي للخلاف المتصل بعدد من القضايا الاجتهادية التي تعددت فيها الأفهام وتضاربت فيها الآراء وتباينت فيها المواقف من المتدخلين في شأن الأسرة في المغرب المعاصر.

وهذا واضح لدى كل متتبع للمساجلات الفقهية والحقوقية وللمنازلات السياسية والإعلامية التي استمرت ما يقارب ستة أشهر. وأهم ما فيها أنها أظهرت أنواعا من الاختلال وكشفت أشكالا من الاختلاف في الفهم وفي التنزيل الفقهي والقضائي لكثير من موادها.

وفي هذا السياق، جاء بلاغ الديوان الملكي الذي يحيل على المجلس العلمي الأعلى لقضايا ومسائل في عالم الأسرة الراهن، عالم لم يعد عالم الدين هو الوحيد المعني بشؤونه وبتشابكاته الواقعية الراهنة، وإنما تدخل ويتدخل في أموره القانوني والسياسي والحقوقي والإعلامي والمفكر والفيلسوف والباحث الاجتماعي وغيرهم من المؤثرين والمؤثرات في العالم الراهن.

وعلى كل حال هي دعوة من الملك باعتباره رئيسا للمجلس العلمي الأعلى للعلماء في المغرب الراهن. هي دعوة سانحة من السوانح النادرة التي يجب أن ينظر فيها هؤلاء العلماء بتجرد وبنزاهة وبموضوعية فيما هو مطروح. ينظرون ويفكرون ويفتون بهدوء وبتوازن وبتدافع اجتهادي مستقل عن الانتماء إلى هذه الجهة أو تلك من جهات المجتمع ومستقل عن الوصاية والتبعية.

العالم المغربي، الجدير بالانتساب إلى زمرة العلماء، لا يفكر ولا يفتي تحت الضغوط المتلونة، العالم المغربي، المعتز بانتمائه المغربي، والممثل لمؤسسة دستورية يرأسها أمير المؤمنين، الملك محمد السادس، المفروض فيه أن يكون عالما متشوفا باستمرار إلى التحرر الفقهي والفكري من الوصاية ومن التبعية.

-ما هي دلالات إحالة مدونة الأسرة على المجلس العلمي الأعلى المكلف بإصدار الفتوى؟

نؤكد في البداية أن سياق الإحالة على المجلس العلمي الأعلى مرتبط بما يفرضه الواقع المستجد على الرجل وعلى المرأة وعلى تربية الأولاد وعلى ما يقتضيه تكوين العائلة المغربية في الوقت الراهن من معادلة دقيقة ووازنة بين النهوض بالواجبات ونيل الحقوق في العلاقات بين مكونات العائلة المغربية وفي طليعتها مكون الزوج ومكون الزوجة ومكون الأولاد.

وهكذا إن أبرز ما يمكن استنباطه من دلالات في هذا المضمار تمكين العلماء من سبر ما بين أيديهم من آراء في ضوء ما يحقق مصلحة البلاد والعباد. يفكرون وينظرون في حصيلة ما أسفر عنه النقاش المجتمعي بهدوء وبتوازن ومن غير جمود.

عندما يكون العلماء هادئين تتهيأ لهم فرصة أن يكونوا متوازنين وغير جامدين، عندما يكون العالم المسلم متوازنا يحدد أهدافنا من النظر في المدونة الفقهية بوضوح تام فتتضح كعبة سيره ….  التوازن هو أولا وقبل كل شيء حالة عقلية ونفسانية تقدر العالم المغربي على أن يعطي لكل رأي ما يستحق من حكم فلا يتطرف إلى هذه الجهة ولا يتطرف في الوقت نفسه إلى ما يعاكسها أو إلى ما يناقضها.

ومن دلالات هذه الإحالة ألا يكون علماؤنا غير جامدين لأن المطلوب منهم أن يكونوا متدافعين من الناحية العلمية، منفتحين من الناحية الأخلاقية والعملية ومتمكنين مما سماه القرآن الكريم ب “الفرقان” الذي يجعلهم يميزون بين ما يعد معضلة تعكس عائقا صحيحا يعوق الأسرة المغربية عن تحقيق أهدافها المشروعة وما يعد مشكلة مزيفة يصطنعها المتاجرون والوصوليون والانتهازيون والأنانيون وغيرهم من أصحاب المصالح الشخصية والمنافع المؤقتة سواء داخل المغرب أو خارجه.

إن الإفتاء الفقهي الصادر عن المجلس العلمي الأعلى لما كان عملا هيكليا يدخل ضمن الاهتمامات الذي نظمتها الدولة المغربية فإن من أقوى الدلالات في هذه الإحالة الملكية التفعيل الحي لإمارة المؤمنين لأن الملك رئيس للمجلس العلمي الأعلى الذي من مهامه الإفتاء الفقهي المستقل عن التبعية والبعيد عن الوصاية والمتحرر من الضغوط الداخلية والخارجية.

-ألا ترى أن اللجوء إلى المجلس العلمي الأعلى هو تكريس لأهمية إمارة المؤمنين في النسق السياسي المغربي؟

نعم هو كذلك، بل لا نستغرب ذلك لأنه ليس بالأمر المستحدث ولا بالحدث المستجد… إحالة القضايا والمسائل الحرجة والدقيقة على “العلماء” تقليد مارسه السلاطين في المغرب. نستحضر على سبيل المثال لا الحصر استفتاء السلطان محمد الرابع محمد ابن عبد الرحمن ابن هشام في شأن تنظيم الجيش تنظيما حديثا وجديدا واستفتاؤه في شأن ما سمي ب “الإعانة” واستشارة السلطان الحسن الأول الفقهاء والتجار والشرفاء في شأن ما عرف ب “الوسق” أو “التصدير”.

-كيف ينظر الفقه المالكي إلى هذه التعديلات التي ستطال هذه المدونة؟

المقصود بالفقه المالكي هنا النتاج العلمي الذي يتأصل على أصول مخصوصة لها صلة وثيقة بإعمال مقاصد الشريعة الإسلامية. أقول إعمال مقاصد الشريعة لأن مقاصد الشريعة ليست مجرد شعار نرفعه وإنما هي ممارسة اجتهادية ترسخ للنظرتين: النظرة الشمولية والنظرة النقدية.

النظرة الشمولية للشريعة الإسلامية باعتبارها نسقا متسقا كأنه كلمة واحدة لا تنافر في بنيتها التركيبية. فهي نظرة مقاصدية تستيقن مقصدية دلالات خطابات الشريعة الإسلامية وعلل أحكامها. المجتهد كما قال الفقيه المالكي وفقيه المقاصد في العصر القديم الإمام الشاطبي: ” إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد”.

بالإضافة إلى هذه النظرة الشمولية للشريعة النظرة النقدية التي تمكننا من المعرفة العلمية بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والنفساني للأسرة المغربية في القرن الحادي والعشرين كما هو وليس وحسب، كما هو جاثم في تصوراتنا أو كما ينبغي أن يكون بحسب هذه التصورات. وهي نظرة علمية يميز الفقيه المفتي من خلالها بين المراتب المعرفية والمتغيرات الوجودية التي مست بنية وتاريخ الأسرة المسلمة والمغربية.

والحق أنهما نظرتان مكلفتان من الناحية العلمية والعملية لأن الفقيه الجدير بالانتساب إلى المدرسة المالكية أو إلى المذهب المالكي عالم له قدرة على إعمال قواعد النظرتين، وخاصة القواعد المتصلة بالمصلحة المعتبرة في الشرع والقواعد المرتبطة بتبين الوسائل والمقاصد والقواعد المتعلقة رعاية مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين.

الفقه المالكي لا يتكلم لأنه محصور فيما كتبه المالكية وكل العلماء الجديرون بالانتساب إلى هذا المذهب، الفقه المالكي نتاج علمي لا ينطق وإنما ينطق بها علماؤه وهم يستصحبون النظرة الشمولية للشريعة الإسلامية والنظرة النقدية في فهمها وتنزيل نتائج فهمها.

-ما أهمية التحكيم الملكي في نهج الوسطية في الجدل الدائر حول النقاش المجتمعي بين مختلف أطياف المجتمع في تعديل مدونة الأسرة؟

من أبجديات القواعد الفقهية المقررة قاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف، أو كما قال الآمدي “حكم الحاكم يقطع الخلاف ويسقط الاعتراض”.

الخلاف هنا متعلق بفروع أحكام الأسرة والذي اختلفت فيه الأنظار المعتبرة والاجتهادات المبتكرة والتي تتعدد مصادرها لأنه يمكن أن يقدمها عالم الدين ويمكن أن يقول بها الزعيم السياسي ويمكن أن يبدعها نظر المفكر والفيلسوف ويمكن أن ينتهي إليها بحث الباحث الاجتماعي.

قاعدة حكم الحاكم يرفع أو يقطع الخلاف من القواعد التي عمل ويعمل بها كثيرا داخل المذاهب الفقهية وامتدت وتمتد كثيرا في البناء القانوني الحديث والمعاصر، وتقتضي، وخاصة في الظروف الاستثنائية المختلفة التي قد يمر منها مجتمع من المجتمعات تدخلا من الحاكم ممثلا في الملك بالنسبة لنظامنا السياسي ليحسم الجدل بما يحقق المقاصد الشرعية لديننا الحنيف وبما يحقق التوافق والوحدة التي يرومها أفراد المجتمع وبما يديم الانسجام والاستقرار أيضا بين مكونات الأسرة المغربية.

نعني بالوسطية هنا؛ التوازن من دون تطرف، فيعطي المجلس العلمي الأعلى برئاسة الملك للمسائل الخلافية ما تستحق من تقدير بدون زيادة ولا نقصان.

ولا يخفى أن للعمل بهذا التحكيم سوابق قريبة مثل خطة العدالة بالنسبة للنساء، وإغلاق المساجد مؤقتا بسبب تداعيات جائحة كوفيد 19.

حاوره: ياسين حكام (كاتب باحث)

مقالات ذات صلة

جدل تدريس الأساتذة بالقطاع الخاص.. السحيمي لـ”سفيركم”: الأمر ليس مستجدا

الشامي: 86 في المائة من المغاربة مدمجون في التأمين الإجباري عن المرض

المغرب يحقق تقدما في مؤشر الأداء المناخي ويواصل ريادته في مجال الحياد الكربوني

فرض ضريبة 30% على “المؤثرين”: محامي يكشف التحديات الجديدة في القطاع

المجلس الاقتصادي: الطفل المغربي ضحية لمنصات التواصل بسبب ضعف آليات الرقابة

المغرب يعرض استراتيجيته لمكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان في جنيف

وزارة الداخلية الإسبانية تبرز جهود فرق الإنقاذ المغربية في فالنسيا

برلمانية تطالب بتعويض المغاربة عن رسوم تأشيرات “شنغن” المرفوضة

السويدان لـ”سفيركم”: بدون القفزة الرقمية لن تنهض الحضارات

تعليقات( 0 )