تقاسم الكاتب والصحافي المغربي محمد برادة، مع طلبة مسلك التميز”الصحافة والإعلام”، في الندوة المنظمة اليوم الأربعاء 11 دجنبر الجاري، برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة السلطان مولاي سليمان، تحت شعار “الصحافة والنشر والتوزيع في المغرب.. الواقع والتطلعات”، تفاصيل من تجربته في الصحافة والنشر والتوزيع، معرجا على بعض التحديات التي تعرقل مسار الصحافة الوطنية وواقعها الراهني مقارنة بفترة بداية الاستقلال.
وأكد الصحافي والكاتب محمد عبد الرحمن برادة، في مداخلته بهذه المناسبة، أن تاريخ الصحافة، التي شدته إليها منذ خمسة عقود، لم يكن يرتقي لاهتمام الباحثين في المغرب، قائلا: “لم تكن هناك صحافة سوى بعض الإضاءات المحتشمة والمحدودة، والتجارب التي لا يمكن أن نرتكز عليها بالمعنى العلمي لتاريخ الصحافة”.
وفي حديثه عن واقع الصحافة المغربية المعاصرة، أوضح برادة أن الصحافة المغربية لم تكن تتمتع في واحدة من أصعب الفترات بالمغرب، بمناخ للحريات العامة مماثل لهذا الذي تعيشه اليوم، لكنها كانت مزدهرة مقارنة بالوضع الراهن، حيث قال: “في الوقت الذي لم تكن فيه الإمكانيات كانت الصحافة، لكن اليوم ومع كل الإمكانيات المتاحة للأسف لا توجد صحافة”.
وتحدث محمد برادة عن وضع الصحافة في فترة بداية الاستقلال والسنوات التي تلتها، التي وصفها بـ”الفترات القاسية جدا”، سواء من الجانب الثقافي و الإعلامي، مضيفا أنه في الوقت الذي كانت تعاني فيه السلطة الرابعة آنذاك من ظلمات الرقابة والخناق والتضييق من قبل المستعمر الفرنسي، كانت مزدهرة نسبيا، حيث كانت منتشرة وتحقق نسب عالية من المبيعات.
ولفت إلى أنه بقدر ما كانت الأرقام المسجلة في فترة الاستقلال تبعث على الفرح، بقدر ما تبعث على الخجل لما تعيشه الصحافة اليوم، مشيرا إلى أن الحياة الإعلامية تعرف في الوقت الراهن مجموعة من المظاهر المتشابكة والمعقدة، وأن الواقع أقل بكثير من السقف الأدنى للطموح.
واستطرد المتحدث ذاته أن الأهم هو بلوغ مرحلة حصر المشاكل التي تواجهها الصحافة اليوم في إطار واضح ومحكم وجاد، مع الخروج من الدائرة الضيقة للأحكام المسبقة والذاتية لمجالات أرحب ودراسات تطبعها المهنية والموضوعية، موضحا أنه على الرغم من أن هذا النقاش قد دام لعقود، إلا أن الأمور بقيت على حالها والصحافة بدأت تتدهور وتنمحي في زوايا متعددة.
وعقد برادة في الندوة مفارقة بين الصحافة “التقليدية، الخلوقة والخجولة” ونظيرتها “الحديثة والجريئة”، قائلا: “لقد كنا نبحث عن الخبر وننتظر وصول الجريدة من المطبعة، وكنا نؤدي ثمنها مسبقا حتى نضمن شرائها، كنا نتلقفها ونتباهى بالعثور عليها ونستشعر مودة البائع حين يحتفظ لنا بنسختنا من الصحيفة، فإذا بنا اليوم مع الأخبار المتدفقة، التي هي من تبحث عنا وتهاجمنا بل وتتعدى علينا تارة وتغازلنا تارة أخرى، وفي مرات تترامى بين أعيننا ونتلقفها بشعور وحتى بلا شعور، وطبعا هي بالمجان”.
وذكر محمد أن الواقع الراهن للصحافة قد تم فيه استبدال المراسل الصحفي بالمواطن الصحفي، معتبرا إياه احتضارا للوسيلة الورقية في انتظار انبعاث جديد بحلة جديدة وعقلية إلكترونية، مؤكدا في ذات الوقت أن “الصحيفة هي ضمير الأمة” كما وصفها الفيلسوف والروائي الفرنسي ألبير كامو، مضيفا أنها بالفعل ضمير الأمة، والخبر المقدس، والتعليق الحر في أبهى وأرقى صوره في احترام الأخلاقيات والابتعاد عن الإشاعة والإثارة.
وقال برادة بنبرة تحسر إن العصر الورقي قد انتهى، والورق بنفسه سينتهي حتميا، لا سيما وأن الإدارات بدورها أصبحت تسعى لتحقيق صفر ورق، وتميل إلى الاشتغال فقط بالحاسوب، مشيرا إلى أن المغرب كان يحقق مستويات “جد محترمة” في توزيع الصحف خلال فترة بداية الاستقلال.
وفي هذا الصدد قال مؤسس “سبريس”: “الصحف المغربية على قلتها آنذاك، كان معدل مبيعاتها يتحاوز 500 ألف يوميا، وكانت صحيفة واحدة توزع 200 ألف نسخة يوميا قبل أن يبدأ الانزلاق منذ بداية هذا القرن، واليوم لا يفوق معدل مبيعات جميع الصحف الوطنية واليومية بالخصوص، البالغ عددها 21 جريدة، 30 ألف نسخة يوميا، وللأسف في زمننا كانت بعض أحياء الدار البيضاء تسجل لوحدها 30 ألف”.
وفي معرض حديثه عن التحديات التي تواجه الصحافة المغربية، أردف برادة أن اللجنة المؤقتة للصحافة، تتعارض مع فكرة التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة، معتبرا إياها تراجعا للمكتسبات التي أرادها جلالة الملك محمد السادس للصحافة الوطنية منذ سنة 2016، داعيا إلى التفكير بجدية في مشاكل الصحافة الوطنية، وعدم التعامل معها بكثير من الحذر.
وشدد برادة في مداخلته على أن الصحافة هي مهنة يجب الذهاب إليها بالقلب والوجدان لا بالمنطق والعقل، مستشهدا بقولة الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال “نذهب إلى الله بالقلب لا العقل”، موجها دعوته إلى الإقبال على الصحافة أيضا بالقلب شريطة الاقتناع التام بجمالها وبدورها الأساسي في تنمية الوطن.
وخلص محمد عبد الرحمن إلى توجيه الشكر الجزيل لإدارة الجامعة والمشرفين على تنظيم الندوة، قائلا: “إنه لشرف كبير أن أكون بينكم في هذا اليوم، وبقدر ما أشعر بهذا الشرف، أشعر بكثير من الخجل أمام كل قيل في حقي، وأشكر جميع من هيأوا وحضروا لهذه الجلسة”.